القهوة تضر بالصحة.. القهوة مفيدة للصحة.. شرب الليمون على الريق يطرد السموم من المعدة، شرب الليمون على الريق يضر المعدة.. بدائل السكر آمنة، بدائل السكر ضارة.. الفاصوليا تهدئ الأعصاب وتقوي الكبد، الفاصوليا تهيج الأعصاب وتضعف البنكرياس، البردقوش مضاد للأكسدة.. البردقوش يسبب الأكسدة!
حين يتعلق الأمر بالأكل والشرب، فلابد أنك، عزيزي القارئ، تسمع وتقرأ عشرات العبارات المشابهة، مضموناً، لما كُتب أعلاه، فكل شيء يتأرجح ويتقلب بين كونه "مفيداً" و"ضاراً" في الوقت نفسه، حتى لا يدري المرء ما الذي عليه أن يأكله وما الذي يجب عليه أن يتجنبه!
فالأبحاث والدراسات لا تتوقف ليلاً ولا نهاراً لتخبرنا أن ما كنا نظنه، بحسب أبحاث ودراسات أخرى سابقة، مفيداً أو على الأقل غير ضار، أصبح فجأة وبقدرة قادر ضاراً وخطراً على الصحة! والعكس أيضاً يحدث؛ فالدراسات والأبحاث لا تتوقف أيضاً كي تخبرنا أن المواد التي كانت بالأمس ضارة وغير مفيدة قد أصبحت آمنة، بل وتُفيد الصحة، ومن ثم تدور الدائرة مجدداً وتعود تلك الأبحاث لتؤكد لنا أن ما قيل لنا غير صحيح، وهكذا دواليك!
شخصياً تمر علي عشرات الرسائل الطويلة أو القصيرة ومقاطع الفيديو التي تكون عناوينها دائماً على غرار "أشياء نأكلها ولا نعرف خطورتها"، أو "لن تأكل هذه المأكولات بعد مشاهدتك لهذا الفيديو"، أو "احذر من هذه الأطعمة"، أو "اقرأ على روحك الفاتحة إذا كنت تحب هذا الطبق"… إلخ.
وفي العادة أتجنب أن أغوص في محتويات هذه التحذيرات، وفي مرات قليلة جداً، ربما من باب الملل والرغبة في التغيير، أسمح لنفسي بقراءة أو مشاهدة ما يأتي في هذه الرسائل، وحينها لا أشعر بأنني استفدت شيئاً سوى أن كل ما تعودنا على أكله وشربه لسنوات وتعود أيضاً عليه من قبلنا آباؤنا وأجدادنا كان هو الخطر بعينه ونحن لا ندري! ويبدو أن الناس منذ عقود لا تتناول إلا سموماً شديدة الفتك والتدمير وهم، المساكين، لم يكونوا مدركين لهذه الحقيقة بسبب غياب الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي!
ثم هناك تلك المقاطع المصورة التي تصلح كأفلام للرعب والتي تخبرك أن الشركات والمصانع المختصة بصنع المأكولات والمشروبات تقوم بإضافة ما لا يخطر ببالك من مواد سامة ومسرطنة ومشعة ومدمرة إلى منتجاتها، وتحرص هذه الشركات على أن تقوم بخلط كل هذه المكونات القاتلة ووضعها في علبة سردين بريئة، أو في مغلف بسكويت أو حلوى لذيذة، وطبعاً لا مجال هنا لصوت العقل الذي من حقه أن يتساءل: ولماذا تقوم هذه الشركات بهذا الفعل؟ وما الذي تستفيده؟ ثم السؤال المنطقي أيضاً: كيف وأين تم التوصل إلى هذه الحقائق المذهلة؟ ولماذا لم نسمع أبداً عن اتهامات أو تحقيقات ضد هذه الشركات المستمرة في عملها؟ والتي تبيع منتجاتها وتصدرها لكل أنحاء العالم؟
أنا أعيش في الغرب، ومن الوارد أن يحدث خطأ في تصنيع أو تعبئة أحد المنتجات، وقد يصاب الناس بنوع من التسمم أو المرض حين يأكلون من هذه المنتجات، ولكن هذه الحالات لا تمر مرور الكرام، وتكون هناك حملات توعية وتحذير من هذا المنتج عبر وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، وتقوم الشركة المصنعة نفسها بسحب ذلك المنتج من الأسواق، بل وتطلب محلات البيع التجارية من زبائنها الذين اشتروا بالفعل ذلك المنتج بأن يعيدوه ويستردوا نقودهم.. وهذه الحالات نادرة وليست شائعة، ولا يتم التغطية عليها كما يعتقد أصحاب تلك المقاطع المصورة الذين يتبنون نظرية المؤامرة!
ومع ذلك تستمر الرسائل والمقاطع والتحذيرات في الانهمار بلا انقطاع مع الطلب الشهير بأن "لا تتركها عندك، وألا تنام إلا وقد أرسلتها لعشرين غيرك". وهكذا لا تكون هناك فرصة للتأني والتساؤل والتفكير في صحة المحتوى من عدمه، فكل شيء تأكله قد يكون قنبلة موقوتة وأنت لا تدري، ويصبح المرء عرضة للوساوس والشكوك في كل شيء، حتى علبة الزبادي البريئة عليك أن تحذر منها، ولا تنس أن أكياس الشاي التي يستخدمها الناس يومياً تحتوي على مواد مسرطنة! فإذا ما قررت أن تترك كل هذا وتكتفي بشراء بعض الماء قالوا لك: احذر لأن عبوات الماء البلاستيكية تسبب الأمراض.
وهكذا يبدو أن أفضل طريقة لحماية نفسك من هذا كله هي أن تتبع عنوان الأغنية الشهيرة التي ذاع صيتها في ثمانينيات القرن الماضي: "لا باكل ولا باشرب"! وهكذا تقي نفسك من كل الشرور التي قد تصيبك إذا ما سمحت لنفسك بشرب كوب من الشاي أو تناول قرص من الشوكولاتة!
إذاً ما الذي يحصل بالضبط؟ وهل العلم والأبحاث والدراسات التي تُجرى في المختبرات ومراكز الأبحاث على مختلف أصناف الطعام والشراب صحيحة ودقيقة؟ أم أن الغرض منها هو جعلنا نتشكك في كل شيء؟ والسؤال الأهم والأخطر هنا.. ما مدى صحة هذه المعلومات التي نقرأها؟ خصوصاً تلك التي تصلنا من الأهل والأصدقاء والمعارف وغيرهم، ويتم تداولها على نطاق واسع عبر شبكات التواصل الاجتماعي، دون أن يتوقف أحد ليدقق فيما وصله قبل أن يرسله لغيره؟
الغريب أن كثيراً من الناس بمجرد قراءته لمعلومة ما أو خبر يقوم فوراً بتبني الموضوع بحماس شديد، ويبادر بإرساله إلى الغير، بل وتجده مستعداً للمجادلة والدفاع عن تلك المعلومة بشراسة، والويل كل الويل لمن يرفض التصديق أو يُبدي بعض التشكك أو يرفض إرسال المعلومة إلى 10 آخرين! وهذا الحماس الأعمى في تلقي وإرسال المعلومات دون فحصها لا يقتصر على الطعام والشراب، بل يتعداه إلى كل المجالات الأخرى الحياتية والعلمية والدينية، وهذه الأخيرة تستحق موضوعاً منفصلاً!
ولو أننا جميعاً نقضي بعض الوقت في التأكد من كل ما يصلنا وغربلته وفرزه لوفرنا على أنفسنا وعلى الآخرين الكثير، إذ ليس كل مقروء مُصدقاً، وليس كل ما يقوله الآخرون أو نقرؤه أو يصلنا عبر وسائل الاتصالات الحديثة هو حقائق مطلقة لا تقبل مجرد الشك، وصدق الأقدمون حين قالوا: "إذا كان المتكلم مجنوناً فالمستمع عاقل".
أما فيما يتعلق بمسألة الأكل والشرب والأبحاث حولهما، فلا يمكن إنكار أن هناك مراكز ومختبرات علمية مرموقة تقوم بالبحث والدراسة والتقصي حول هذه الأمور بطرق وأساليب وتجارب علمية، لكن في عصر المعلومات المتطايرة في فضاء الإنترنت الشاسع ربما كان من المفيد أن يتوقف المرء قليلاً عن متابعة آخر الأبحاث والدراسات، ويكتفي ببعض القواعد من حين لآخر. فلا يحتاج المرء لأن يكون عالماً حيوياً أو متخصصاً في الهندسة الزراعية ليضع لنفسه قواعد بسيطة يميز فيها بين ما هو ضار وما هو نافع، فمثلاً من أبسط القواعد التي يمكن اتباعها هي أن "ما زاد عن حده انقلب إلى ضده"، فمثلاً الفواكه والخضروات مفيدة لجسم الإنسان، لكن الإكثار من أي منها يمكن أن يؤدي إلى نتائج غير مستحبة، لا بأس بأن تشرب القليل من القهوة، لكن من يدمن على شرب 20 كوباً من القهوة يومياً هو بالقطع يؤذي صحته… وهكذا.
القاعدة الثانية هي ألا تصدق كل ما تسمعه، ولو وصلتك رسائل أو مقاطع فيديو تؤكد لك أن كل مؤسسات ومختبرات الأغذية في العالم، وعلى رأسها إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، وهي أشهر منظمة حكومية مسؤولة عن الإشراف على سلامة الأغذية والأدوية، توصي بأن أمعاء السحالي أو بول التماسيح أو لعاب الصراصير يفيد الصحة، فبإمكانك دوماً أن تشكك في هذا الكلام، وألا تتذوق هذه الأشياء، ولن يفوتك الكثير أو يلومك أحد حينها.
ينبغي كذلك عدم الانجرار وراء التهويل المبالغ فيه، فعلبة الفاصوليا أو قطعة البسكويت أو قليل من البطاطا المقلية لن تسبب لك فوراً السرطان والشلل الرعاش وضمور الأعصاب والتهاب المفاصل والعمى.
هناك نقطة أخرى مهمة هنا وهي خصوصية المجتمعات وثقافتها المختلفة فيما يتعلق بالأكل والشرب، إن طبق "أرجل الضفادع" أو Frog legs مثلاً يُعد من أشهى الأطباق الوطنية في فرنسا، بينما "حساء الثعابين" Snake soup هو طبق مفضل وذو شعبية في الصين، فالسؤال حول هل الضفادع أو الثعابين مفيدة أو مضرة صحياً لن يصنع فارقاً كبيراً لدى هذه الشعوب التي تعودت على أكل هذه الأطباق، بل وتجدها "شهية" ولذيذة..
إننا نعيش في عصر الإنترنت وتطبيقاته المتنوعة، وشبكات التواصل الاجتماعي بمختلف أشكالها، حيث تتطاير الأخبار والمعلومات والشائعات أيضاً وتنتشر في لمح البصر وبضغطة زر؛ خصوصاً فيما يتعلق بمواضيع الأكل والشرب، لذا لا بد من أن نغربل قليلاً ما يصلنا من هذا السيل العارم من المعلومات، وأن نتروى قبل تصديق كل شيء، وأن نبذل جهداً أكبر في البحث والتيقن من المعلومة قبل مشاركتها مع الآخرين، ولو لم نفعل فإن المخاوف غير المبررة قد تدفع البعض إلى الشك في كل شيء يتعلق بالأكل والشرب، سواء كنا نتكلم عن شوربة الدجاج أم حساء الثعابين!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.