لماذا ننتمي إلى أوطان لا تقدرنا؟!

عربي بوست
تم النشر: 2022/08/21 الساعة 09:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/08/21 الساعة 09:55 بتوقيت غرينتش

منذ سنوات مراهقتي الجامحة بدأت أتأمل وأتساءل عن ماهية العلاقة التي تربطني بهذا الوطن الذي ملكني ولم أملكه يوما، أَنَمُوتُ ليحيا الوطن؟ وما الوطن إن لم يكن لأبنائه منبعاً للأمن والسلام؟ تشغلنا هذه الأسئلة الوجودية التي تَعَوَّدْنَا التعايش معها، تطل علينا من حين لآخر ونحن غارقون في ركاكة الحياة اليومية، فتنتشلنا من رتابتها القاتلة لتغرقنا في بحر من الشكوك. قال نجيب محفوظ: "وطن المرء ليس مكان ولادته، ولكنه المكان الذي تنتهي فيه كل محاولاته للهروب"، لكننا شعوب كُتِبَ عليها الهروب أينما حَلَّت وارْتَحَلَت، نهرب من الوطن، سجننا الكبير، إلى منفى أكبر وأشد قسوة، يتبرأ مِنَّا الوطن قبل أن يتسنى لنا أن نتبرأ منه أو نحرق أوراقنا الثبوتية ونركب زوارق الأوهام.

يقابلنا في الضفة الأخرى من يشتمّون رائحة خوفنا، ويقتاتون على يُتم الأوطان، الذي رمى بنا إلى حيث لا ننتمي، ثم نعتاد على كوننا أنصاف بشر، أنصاف مواطنين ولاجئين دون هوية. الغريب في الأمر أننا لا نقوى على التنكر لهذا الوطن بكل ويلاته وتشوهاته العاطفية ونكرانه لنا، ولا نقوى على الانصهار بشكل كامل في "وطننا الجديد"، ذاك الذي وهبنا فرصة الحياة بعد موت وشيك.

 لطالما تساءلت: "أنحن العدميون أم أن الوطن عدمٌ أساساً؟" لم أجد الكثير من الأجوبة المقنعة في بحثي المضني عن الوطن، لكنني اكتشفت سراً لا يدركه الكثير، فالوطن هو الوهم الذي تعلقنا به طمعاً في حياة كالحياة، أما الوطن بما تعنيه هذه الكلمة من انتماء وأمن وسلام فهو غائب إلا في أشعارنا الحالمة ومقالاتنا الزائفة التي تنضح كذباً وبهتاناً. ما الوطن إلا سجن يكبل طموحاتنا ويحصر وجودنا في مجال جغرافي معين، يلقننا حراس السجن/الوطن مبادئ التعلق والإخلاص لجلّادينا ويسمونها وطنية.

نحن ننتمي لوطن لا يقدرنا إلا عندما نموت ولا يبادلنا الحب اليتيم

 نسرف عادة في الحديث عن وجع الفقد، فقد الأحبة والأصحاب وفقدان الأحلام التي تموت في سن مبكرة، لكننا نادراً ما نجد في أنفسنا ما يكفي من الجرأة، لنتحدث عن أوطانٍ لنا اختطفت من بين أيدينا وهي لا تزال في مهدها، تحاول أن تضيء طريقها المظلم نحو التقدم بشموع الأمل. وحتى إن وجدنا الكلمات المناسبة والتي تعبر عن فداحة فقدنا ويُتمنا، يسمى حديثنا الشائك حينها بالخطاب "الشعبوي"، فحتى المندسون فينا يعلمون في قرارة أنفسهم أن الوطن والشعب كيان واحد لا يقبل التقسيم.

 نخرج من أرحام أمهاتنا ليعانقنا تراب الوطن كلما تعثرنا ونحن على مشارف تعلم المشي، ثم وحتى بعد بلوغنا سن الرشد نستمر في التعثر في الطريق الوعرة نحو المستقبل، ونسقط مرات عديدة لتحملنا أرض الوطن المنهوبة في كل مرة. 

عادة ما نعي حجم الفقد بعد أن نعيش نوبة الفشل الأولى، نستيقظ على نغمة منبه البيروقراطية والمحسوبية، وندرك حينها أن الله وحده قادر على أن يرد البلد سالماً معافى. ثم نتعلم ألا نتحدث في هذا الصدد أن نتجاهل مأساتنا ونحمد الله على قسمتنا من الأزمات الاقتصادية والكوارث الطبيعية، ونبتهج لأننا على الأقل لا نعيش حرباً مسلحة، وإن كان وجودنا (و استهلاكنا للماء والأوكسجين) يحارب كل يوم. فالحمد لله على افتقارنا لحرية الرأي والحق في التطبيب، والحمد لله على النظام الجامعي الفاشل، والحمد لله على شح فرص الشغل الذي يقابله غلاء الأسعار، والحمد لله على أموالٍ لهم كُدست في حسابات بنكية وأخرى حُوِّلَتْ للخارج.

 هكذا علمونا في المدرسة، أن كل شيء يحدث لسبب ما، وأن الولاء والطاعة إيمان وتقوى، وأن الخروج عن طاعة ولي الأمر وطرح أسئلة لا فائدة منها كفر والعياذ بالله. ولأنني لست من الكافرين قررت أن أتجرع يُتم الأوطان هذا بكل سهولة، أن أكون ذلك الشيطان الأخرس لأن الملائكة في وطني لا يعيشون طويلاً؛ بعضهم يقبع في السجون والبعض الآخر محكوم بالنفي مدى الحياة.

 لم ينل الملائكة الشيء الكثير من دفاعهم المتفاني عن الحق وضحدهم للباطل، سوى أن أصبح يشار إليهم بالبنان، بعد أن تمت شيطنتهم بنجاح. لم يجد ملائكة الوطن،حماة الخير وأنصار الشعب من يدافع عنهم ويدفع عنهم أذى العالم، لم يجدوا بين ملايين الجماهير التي كانوا يدافعون عنها ببسالة من يستميت في الدفاع عنهم ولو رداً للجميل. 

ولماذا إذن أجازف بحياتي لأجل جماهير مستعدة لجعلي كبش فداء وقراءة سورة ((يس)) تضامناً مع جثماني لا أكثر ولا أقل؟ الحقيقة أن المرء يجب أن يكون أكثر حكمة في اختياره للقضايا الإنسانية التي يسخر حياته لأجلها. هناك قضايا قد تفني شبابك وعمرك بأسره لأجلها دون جدوى، ذلك لأن أصحابها جبناء، مستعدون للاختباء خلف جثمانك إن أنت وقعت خلال مسيرك على درب نضالهم. يحلفون لك بأغلظ الأيمان أنهم مستعدون لبذل الغالي والنفيس لأجل قضيتهم، ثم ينقلبون عليك بمجرد أن يورطك نضالهم الكاذب في جحر الذئب، يفرون بجلدهم لأن الفرار من أكثر شيمهم صدقاً. 

لهذا السبب قررت منذ سنوات خلت أن لهذا الوطن رباً يحميه، وأنا لست محامية والشعب ليس موكلي. قررت التزام حقي في الصمت تماماً كما اخترت غربتي، لأن كل ما لا تدركه العين يغيب ولو لفترة قصيرة عن القلب والذاكرة. هكذا اخترت النسيان والصمت، واخترت أن يكون نضالي الوحيد في الحياة هو مساعدة من يتخبطون في حيرة بين دفء الأوطان وصقيع الغربة، في محاولة أخيرة مني للتصالح مع الفقد الموجع.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
آية العنزوق
كاتبة مغربية في مجال التاريخ والفلسفة
تحميل المزيد