لماذا أبقى الإسلام على الرق ولم يحرر العبيد كما حررهم الغرب؟

عدد القراءات
1,229
عربي بوست
تم النشر: 2022/08/04 الساعة 12:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/08/04 الساعة 12:02 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية / shutterstock

كتب العقاد عن أن الإسلام شرَع العتق ولم يشرع الرق، ولم يُبق من قوانين الرق إلا ما أبقته القوانين الحديثة من حرص الأسر على الحروب فقط والاحتفاظ بالأسرى وجعلهم يعملون ما دمت تعطيهم حقوقاً آدمية للأسير.

وقد اعترض صديق أن هذا "كلام نظري، لكن عملياً لم يُطبق طيلة 1400 سنة إلى أن جاءنا إلغاء الرق من الغرب. فهل العلماء الإسلاميون لم يكونوا يعرفون ما قاله العقاد، أم لم يوافقوا عليه".

هل شرع الإسلام الرق، وألغاه الغرب؟

الرق

وأتساءل كيف يمكن أن يكون هذا الكلام نظرياً؟!

فالإسلام شريعة: أي حلال وحرام ومقاصد.

وتعاقد اجتماعي: أي إلزام مجتمعي وقانوني للمتدينين وغيرهم بعدم التعدي على المحرمات، وإتاحة سبل الحلال وتمكين المقاصد.

ونظام أخلاقي: أي التزام فردي وجماعي للمتدينين، ولا يمكن إجبارهم عليه،  لكن ليس آلية تنفيذ حتي وإن شجع عليها.

وفي موضوع الرق، فإن الإسلام قد قام بدوره "عملياً" في كل هذه النواحي.

فمثلاً الإسلام شرع تحريم أن يؤخذ الإنسان أو أحد أهله عبداً بدَين لم يستطع سداده. وهو من أسوأ مظاهر وأبواب العبودية، وهنا الإسلام قام بدوره التشريعي عملياً.

وعملياً أنشأ الإسلام تعاقداً اجتماعياً في المجتمعات التي يطبَّق فيها الإسلام، سواء على المسلمين أو اليهود أو المسيحيين أو غيرهم، بتجريم بيع الإنسان عبداً نتيجة دَين عليه. وهنا حقق الإسلام دوره التعاقدي على أكمل وجه على مر التاريخ، ولم يتخلَّ عن دوره، إلا عندما حيد الإسلام من الحياة العامة، سواء نتيجة ضعف الدولة الاسلامية وعدم قدرتها على فرض تعديلات قانونية، أو عندما انحلت الدول نفسها، ولم تعد تكترث بالإسلام.

واخلاقياً، فإن المتدينين الذين يتبعون المنهج يحرِّمون على أنفسهم أن يسترقوا أحداً نتيجة دَين عليه، وهم يفعلون هذا سواء الدولة فيها قانون يجرِّم الفعل أو لا، لأن المسؤولية الأخلاقية للمتدين تصاحبه، بغض النظر عن فساد المجتمع.

وهكذا الدين نفسه والمتدينون قاموا بدورهم التشريعي والقانوني والاجتماعي والأخلاقي، سواء في تحريم البيع بالدين، أو تحريم الخطف، أو تحريم بيع الفقراء لأولادهم للحصول على أموال، والباب الوحيد الذي تركه الإسلام مفتوحاً هو ما تكلم عليه العقاد، فأين النظري في هذا؟ ومن ناحية أخرى فتح باب العتق كعمل أخلاقي وديني، وشجع عليه بشكل كثيف كمسؤولية أخلاقية للمتدينين. والتاريخ مليء بواقع أن المتدينين فعلوا هذا، حتى وإن فسد المجتمع. فما النظري في هذا؟

والأهم هو أنه وإن ظلت العبودية قائمة كهيكل خارجي، إلا أن حقيقة العبودية نفسها تم استئصالها وتفريغها من محتواها الاجتماعي، على عكس النظم الأخرى حتى التي قامت بتحرير قانوني للعبيد، واحتفظت بالمعنى العنصري الاجتماعي البغيض للعبودية نفسها.

فالإسلام اعتبر الرقيق (شريعة، وتعاقد قانوني، والتزام أخلاقي) متساوين كآدميين، وهو أمر بسيط لنا الآن، ولكنه أمر جلل حينها، و كان أهم المنظرين والمفكرين في العالم، سواء أفلاطون أو أرسطو أو غيرهم يرون أن الرقيق ليسوا آدميين.

  بل في العصر الحديث تجد الحضارة الغربية طالما اعتبرت العبيد بالذات من خلفيات غير بيضاء أنهم غير آدميين أصلاً من مثل جون لوك وديفيد هيوم وكانط.  بل إبراهام لينكولن نفسه بينما كان يحرر العبيد لأسباب سياسية، كان يصرح بشكل علني أنهم أقرب للقرود العارية، ولا يجد غضاضة في إخصائهم لكي لا يتوالدون.

الرق
أبراهام لينكون

 وما زالت إلى الآن النظرة "اليمينية" للملونين فيها مفردات عنصرية عميقة كثيرة، وإن لم تتخذ حكماً جامعاً كـ"عبد"، ولكنها وزعت محتويات العبودية واستخدمته بشكل قميء وانتقائي وترى "السيد الآدمي والعبد الحيوان" جوهراً اجتماعياً في الأدبيات تستدعي كلما احتاجوها مرة لتبرير الحملات الاستعمارية ومرة لتبرير إسقاط الاتحاد العثماني ومرة للتغاضي عن جرائم الإنسان الأبيض ضد الملونين في الحروب العالمية ومرة أيدولوجياً.

علي العكس فتجد الإسلام (عملياً) غيَّر هذه النظرة الاستعلائية من جذورها، ولم تعد موجودة ولا يعتبر مسلم أنه آدمي والعبد أقل من هذا، (وهذا أمر إسلامي أصيل على كل المستويات، سواء التشريعي أو التعاقدي القانوني أو الالتزام الأخلاقي) بل أنه بعد الإسلام ببضع سنوات فقط تجد السادة البيض تابعين في جيش يقودهم أسود كان عبداً قبل قليل بلا غضاضة، دون اعتباره أمراً سيئاً من أحد، وترى الدولة الإسلامية حتى في أسوأ حالاتها والمجتمعات نفسها تتعامل مع العبيد أو الملونين أو الموالي حسب دورهم الاجتماعي، فمن منهم تعلم العلم وأصبح عالماً، فاحترموه وعاملوه كالعالم المسلم، بل كثير من الموالي تفوقوا على أحرار العرب علماً، وبالتالي مكانة ولا يسأل أحد إلى يومنا هذا على أصلهم ولا يكترث أحد إلا لإنتاجهم العلمي. وعلى الجانب الآخر تجد الأمة العاهرة يعاملها المجتمع كالحرة العاهرة، بلا تفرقة في الازدراء. وأنت تجد هذا بوضوح في أدبيات المسلمين وقصصهم الشعبية قبل تاريخهم وكتب فقههم، بل تجد المسلمين لم يجدوا غضاضة يوماً ما أن يحكمهم عبد ما داموا اقتنعوا بقدرته، فلم تجد من يعترض يوماً على حكم المماليك لأنهم عبيد.

 بينما هذا النقاش كان دائراً في المجتمع الأمريكي حتى العصر الحالي وبشكل علني في انتخابات أوباما؛ لأنه أسود، وقطاع كبير (يكاد يكون نصف المجتمع الأمريكي ورأيناهم بشكل فج مع ترامب) يؤمن بمفردات عنصرية إثنية كثيرة، بينما في بلد متردي الحال كمصر (متردٍّ حضارياً وأخلاقياً وإسلامياً) فإن الأمر لم يُطرح أصلاً للنقاش في حالة انور السادات، ولم يشغل أذهاننا، اللهم إلا إذا كان أمراً شاذاً وجانبياً لدرجة أن لم نسمع عنه.

عملياً الإسلام حرر الرق بإذابة جوهره وقطع منابعه. فبينما الإسلام يشترك مع غيره في لفظة الرق، ولكن مدلول اللفظ مختلف تماماً، هذا هو جوهر الطرح. فالإسلام أزال المفردات العنصرية للرق وأفرغه من محتواه، وحتى هذا الهيكل الفارغ من المحتوى قطع مصادره وأكثر من مخارجه، فواقعياً لم يكن يوماً بعد الإسلام لدينا رق بمفهوم مقارن مع الغرب أصلاً، بل نظامان مختلفان تماماً. بينما على العكس، فإن النظم الغربية حررت الرق بشكل نظري، فأزالت شكله كتعاقد اجتماعى وقانوني، واحتفظت بمفرداته العنصرية البغيضة إلى يومنا هذا، موزعة على أجندات سياسية واجتماعية متعددة. 

ولكن لماذا لم ينهِ الإسلام الرق أصلاً؟

 لماذا لم ينهِ الإسلام الرق بحكم فاصل كالخمر وغيره؟ ألم يكن هذا هو الأفضل بدلاً من أن يترك الغربيين يأتون بالتحريم؟

الحقيقة أني لا أدري ما الحكمة من تشريع معين، أو من عدم تشريع آخر. كمسلم لا أؤمن أن هذا من اختصاصي أصلاً.

ولكن لو أردت قياس جودة التشريع بنتائجه، فإن النتائج الاجتماعية الدائمة والجوهرية للنظام الإسلامي أفضل 100 مرة من نظام غربي كما فعل إبراهام لينكولن الذي حرر العبيد قانوناً، وترك الاستعباد حقيقة اجتماعية سارية إلى اليوم.

وغني عن الذكر أني لا أقصد أن إبراهام لينكولن سيء، لأنه حرر العبيد، بالعكس أنا أقصد أنه سيئ، لأن تحرير العبيد نفسه كان فعلاً عنصرياً وكان يحتقر العبيد ويعتبرهم غير آدميين على نفس درجة الإنسان الأوروبي الأبيض.  

وأنه كان يؤكد للناس أنه لا يعني بتحريرهم أنهم متساوون مع الإنسان، ولا يهتم أصلاً لإنهاء العبودية أو إنقاذها، ولكن هو هدف سياسي لمصلحة الولايات المتحدة الأمريكية.. بل كان يحاضر نصاً إن علمياً فإن الأجناس الأوروبية أرقى آدمياً من الأجناس الملونة، وخصوصاً السود، بل كان يؤكد على المجتمع أنه لا يجب أن يتناسل البيض مع السود، أو يعيشون بشكل متساوٍ سياسياً أو اجتماعياً.

وله الكثير من المقولات والتنظير العنصري، لا يفرق كثيراً عن هتلر في احتقار الأجناس الأخرى، ولكنه كان مستعداً لاقتراف جرم أخلاقي بإعطاء حقوق آدمية "للقرود" لينجح سياسياً. 

وهناك العديد من المصادر بسهولة سيجدها كل من يبحث توضح لماذا حرر العبيد؟ وكيف حارب للحفاظ على العنصرية والاستعباد كنظام اجتماعي ومقبول أخلاقياً؟ وهذا السعي للحفاظ على الفكر العنصري لم يقله عفواً مرة، بل هو عمل متواصل منه ومن حزبه بأكمله، ويمكن قراءة الكثير عن هذا. منها مثلاً مجموعة مقولاته و عن حزبه. وإلى الآن ٢٠٪ من مؤيدي ترامب ما زالوا يعتقدون أنه كان من الخطأ تحرير العبيد.

ولكن الإسلام لم يفرض تحرير الرقاب، بل هو فقط من الأفعال التطوعية، وليس إلزاماً على أحد

عبقرية الإسلام في وجهة نظري هو أنه يحمل أكثر من وجه:

الجانب القانوني: وهذا أصعب في التنفيذ، لأنه يتطلب دولة قوية، وتستطيع فرض قيم الحرية والعدل بالقانون أو بالاتفاقيات، خصوصا حين يكون المجتمع غير معترف بقيم الإسلام. 

ونظام اجتماعي ديني يمكن تطبيقه فوراً من المتدينين، حتى ولو لم توجد دولة إسلامية تحقق الجانب الاجتماعي.

 وليس معنى أن إحدى الشرائع ليست إلزامية أنها لا تطبق أو لا تدعم. فحتى حين تكون غير مفروضة قانونياً، ولكنها مفعلة أخلاقياً و اجتماعياً.

ففي بلد مثل مصر مثلاً، فإن الصدقات بالرغم من أنها ليست "حلالاً وحراماً"، بل ورع، ولكن النموذج الإسلامي يحفز عليها ويدعمها حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من المنظومة الاجتماعية والإسلامية وتنفذ بأحجام أكبر بكثير جداً من الزكاة التي هي فرض.

بل إن هناك مدناً وقرى بأكملها لا تلقي لها الحكومة بالاً، ولم يتم الإنفاق العام عليها منذ أيام الفراعنة إلى اليوم، ولم يرصف لهم حاكم طريقاً، ولم يقم لهم مدرسة أو مشفى، سواء في العصر الفاطمي أو في 2017، وبالرغم من هذا فإن النظام التكافلي الإسلامي هو المتكفل بشكل تام بالإنفاق العام والدعم المالي للأسر من أموال الصدقة والأعمال الخيرية، فتجد فيها جوامع ومدارس ومشافٍ وبنية تحتية من أولها إلى آخرها تقوم على العمل التكافلي الإسلامي، وبالرغم من أنه غير إلزامي (كتعاقد قانوني وفقهي) فإنه داخل المنظومة الإسلامية هو بناء اجتماعي قوي يعتمد عليه ويطبق أقوى من القوانين بكثير.

لهذا، فلا تأخذ الالتزامات الأخلاقية والفردية والاجتماعية المبنية على الورع كأنها أقل قدراً أو أقل إسلامية من الإلزامات الفقهية والتعاقدية والقانونية، بل إن الإلزام القانوني في الإسلام (الحلال والحرام الذي يلزم به المجتمع بتشريع قانوني) ليس إلا قمة الجبل الأخلاقي والاجتماعي وحده الأدنى. بينما الهيكل نفسه في الإسلام قائم على الإحسان وتفعيله كأصل تنفيذي أكثر التزاماً وتأثيراً من العدل.

إذاً، هل الإسلام أفضل السيئين؟

يقول صديق وقد وضع يده علي صلب المشكلة، "مشكلتي أن حضراتكم تتكلمون عن الرق وكأن الإسلام "أفضل السيئين".. دائماً تقارنونه بما هو أسوأ، وتقولون على الأقل هو هكذا، وعلى الأقل هو هكذا، أليس الإسلام الدين السماوي صاحب الحقيقة المطلقة؟ ألا يجب أن يكون حقاً لذاته.. لا عن طريق مقارنته بالقذر والقول "على الأقل هو لم يفعل قذارة ذا وذا"؟

وهذا هو صلب الموضوع بالفعل، فالمشكلة الإسلام لا يمثل الحقيقة المطلقة وهذا فهم خاطئ شائع.

لا يوجد مطلقات غير الحق -عز وجل- ذاته، أما الشريعة ونظمها الاجتماعية فهي أدوات للوصول للحق وتتعامل مع الواقع الإنساني بعدم تحديده كما هو. لذلك فلا يوجد تقريباً أي شيء فاسد كله إلا الكفر ذاته، ولا يوجد شيء صالح كله إلا الإيمان ذاته.

أما أي شيء ففيه مضار ومنافع، والإسلام عندما يشرع فهو يعطينا الحكم الذي يحقق أفضل توازن.

الخمر فيها منافع، ولكن ضررها أكثر من نفعها والحكم هنا هو اجتنابها، ليس لأنها ضرر خالص، ولكن لأنها تحقق أفضل نتيجة وتوازن إن اجتنبتها.

والصيام صحياً به فوائد وبه أضرار، ولكن فوائده أكبر من أضراره بكثير، وهو ليس فقط مباحاً، بل عبادة.

والزكاة تهدر من مالك وقد يساء استخدام أموالها، ولكنها عبادة. وفوائدها وكونها براً يفضل أكثر بكثير عن مشقتها.

وكذلك الرق ليس شراً صافياً، بل بالعكس الرق بشروط الإسلام أفضل من الأسر بشروط معاهدة جنيف. 

فاتفاقية جنيف للأسرى التي ما زالت سارية إلى الآن، والمستنكر الرق في الإسلام لا يجد فيها مشكلة، بينما هي تبيح الأسر والاستعمار والقهر على تنفيذ أعمال، وفي المقابل لا تعطيهم حرية الحركة والتملك والزواج كما يفعل الإسلام في نظامه، بل يسجنونهم ويأخذون منهم كل حقوقهم. بينما الإسلام أرفق كثيراً من النظام "الحالي في 2017" في التعامل مع الأسرى، فيجعلهم ضمن البيت ويمتلكون حرية التملك والزواج والتحرر بدفع مال أو تعليم، ويجرِّم سجنهم ويجرم ضربهم. بل من ضرب مملوكه على وجهه يعتق،ه ومن آذى عبده يؤذى بمثله. 

وإن خيرت أحد المسجونين طبقاً للمعاهدة أن يعيشوا داخل أسرة بشروط الإسلام بدلاً من الأسر، فغالبيتهم سيختارون أن يعيشوا فيها. ويتزوجوا ويعملوا ويفدوا أنفسهم إن أرادوا.

ولكن أليس الأسر نفسه في الحروب يجب تحريمه؟

لا، فالأسر بالرغم من قسوته فإنه ليس شراً خالصاً وفيه خير، وأحياناً يكون ضرورياً، ولهذا فلم يستغن عنه الإنسان، بل قنَّنه.

وهكذا، معظم من يستنكر الرق أو الأسر أو عقوبة الإعدام أو أكل اللحوم وأن نكون نباتيين، هو يظن أن المثالية أن تبحث عن اختيار كله صالح، وليس فيه ضرر مطلقاً، وهذا غير صحيح، بل أنت تبحث عن التوازن الأمثل والمثالية العملية، وليست المثالية الرومانسية التي تجعلك تصبح نباتياً، لأنك لا تريد أن تأخذ البيضة من الفرخة. 

لا توجد مطلقات يا صديقي، نحن في دنيا. ودين الحق إطلاق صحته في توازنه وليس في أنه يوتوبيا رومانسية.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عمرو فاروق
مستشار في إدارة الابتكار والريادة الإلكترونية
تحميل المزيد