حين نجلس أمام موائدنا العامرة بصنوف الطعام قد يجب علينا الامتنان لأشخاص رحلوا، لكنهم تركوا خدماتهم الجليلة تسري في شرايين حياتنا، إذا كنت من مصر وتحب فاكهة المانجو، فيجب عليك توجيه شكر خاص لزعيم الثورة العرابية الذي جاء بشتلاتها لدى عودته من منفاه في جزيرة سرنديب، أما إذا كنت من أي مكان في العالم، فما تقع عليه عيناك من صنوف الطعام والوصفات على مائدتك قد يكون نتاج رحلة طويلة من الشرق إلى الغرب، أو العكس، رحلة انتقلت فيها الأطعمة والوصفات على أيدي الرحالة والجنود والقادة العسكريين والدبلوماسيين والتجار؛ بل وحتى الجواسيس.
من هنا جاءت الفكرة لتتبع بعض من سيرة أبطال الظل الذين كانوا سبباً في تشكيل مائدتنا الحديثة وثرائها، ومعه طرف من حكايات الأطعمة المهاجرة.
التوابل.. صراع طويل حول السر
بقي سر التوابل طويلاً في جوف التجار العرب والمسلمين؛ نظراً لأنها كانت التجارة الأهم والأعظم ربحاً في العصور الوسطى، إخفاء هذا السر روّج العديد من الخرافات حول التوابل، اعتقد الشاعر الإغريقي هوميروس أن القرفة تأتي من أعشاش طيور ضخمة مجنحة، فيما ساد الظن بأن التوابل تنزل من جنة عدن فتتدفق في أنهار جزيرة العرب، حركت أطماع الأوروبيين السؤال من تحت الركام، وشُحذت الهمم لاستكشاف أرض التوابل المجهولة أو بالأحرى معرفة الطريق إليها بعيداً عن الطريق العربي، كلفت الإجابة عن هذا السؤال عشرات السنوات من العمل على تطوير السفن وطرق الإبحار والعديد من الحملات الاستكشافية التي وجدت إحداها العالم الجديد بالصدفة حين رسا عليه كريستوفر كولومبس بالخطأ، فيما وصلت أخرى للجنة الموعودة في أرخبيل الملوك؛ حيث تقع جزر الحبهان وجوزة الطيب، الأمر الذي حول مركز التجارة العالمية بالكلية نحو الغرب عبر مذابح دموية.
حافظت هولندا كثيراً على احتكارها لجوزة الطيب قبل أن تنجح بريطانيا أثناء احتلالها جزيرة باندا في تسريب شتلاتها سراً إلى مستعمراتها في سريلانكا والهند، لم تكن تعلم هولندا حين استغنت عن مانهاتن الجديدة لبريطانيا مقابل استرداد جزيرة باندا أن شجيرات من نباتها العزيز تنمو في مستمعرات بريطانية، وأنها ستنهي احتكارها لذلك التابل الذهبي بعد عقد من الزمان.
غرام في أرض القهوة
حرضت أرباح القهوة الهائلة فرنسا على احتكارها، فحظرت في القرن الثامن عشر خروج أي من بذور القهوة أو شتلاتها خارج مستعمراتها، لكن ستبقى البرازيل -ومن خلفها العالم أجمع- ممتنة لفرانسيسكو دي ميلو بالهيتا، الرجل الذي وقف خلف أهم خطوة في تاريخ البرازيل الاقتصادي، كان بالهيتا ضابطاً واعداً حين كلفه الإمبراطور بمهمة دبلوماسية في غينيا الفرنسية ومن خلفها كانت تقبع سراً المهمة الحقيقية لبالهيتا، تهريب شتلات القهوة.
تقترح الحكاية أن بالهيتا أوقع زوجة حاكم غينيا الفرنسية كلود دورفيلييه في غرامه، في حين قدمت له الأخيرة مراده داخل باقة ورود قُدمت له أثناء مغادرته إلى بلاده، وفي الشاطئ الشرقي للبرازيل خرجت من باقة الورود تلك شتلات القهوة التي ستضع البرازيل بعد عقود في صدارة منتجي البن، وتصبح القهوة في متناول الجميع.
جيفرسون.. جاسوس مطبخ برتبة رئيس
شغف توماس جيفرسون، ثالث رئيس لأمريكا، بالطعام، وخلال السنوات التي عمل فيها سفير لدى حكومة لويس السادس عشر في فرنسا كان بجانب نقله للعديد من الوصفات والأطعمة من أوروبا إلى أمريكا يعتبر نفسه مسؤولاً عن ترويج الصادرات الأمريكية، وخلال عمله هذا آمن بضرورة تكييف المنتجات الأمريكية لتناسب الأذواق الفرنسية كحل لزيادة الصادرات، عمل جيفرسون على إدخال أصناف جديدة إلى الزراعة الأمريكية إلى جانب تغيير طرق الإنتاج، لاحظ جيفرسون أن الفرنسيين لم يُعجبوا بقمح كارولاينا الذهبي وفضلوا عليه أرز أربينو الإيطالي الذي يستخدم في صناعة الريزوتو، توجه جيفرسون الذي صار فيما بعد رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية إلى شمال إيطاليا عام 1787م ومن هناك استطاع أن يهرب جوالين صغيرين من بذور أرز الأربينو، ثم وجدا طريقهما إلى الحقول الأمريكية ليُضافا إلى قائمة الأطعمة التي أثرى بها جيفرسون المائدة الأمريكية.
على أثر جيفرسون سار العديد من الأمريكيين في نقل الأطعمة المميزة من العالم كله لتُزرع في أمريكا، عرفت أمريكا الفستق بعدما أحضر ويليام وايتهاوس إليها عشرة كيلوغرامات من بذوره من مزارع مختلفة في إيران جمعها بيده، وبعد عقد من الزمان قام خلالها وايتهاوس بزراعة حقول تجريبية استقر على شجرة كانت الأفضل نبتت من بذور تعود لحديقة عائلة في رفسنجان اسمها عائلة الأغا، وسمي هذا النوع "كرمان" على اسم ابنتهم ويُعتقد حالياً أن هذا أفضل أنواع الفستق، تمت زراعته في وسط كاليفورنيا ونجح بشكل كبير في السبعينيات، وواصل نجاحه إلى الآن مضاعفاً المحصول السنوي.
كاثرين بارغانزا.. ذوق العالم الحديث
إذا كنت من محبي الشاي فلربما عليك الامتنان لكاثرين بارغانزا الأميرة البرتغالية التي يمكن أن نطلق عليها لقب "سفيرة الشاي"، فبينما عُرف الشاي في الصين وشرق آسيا منذ آلاف السنين إلا أنه لم ينتشر في بقية العالم إلا عن طريق شركة الهند الشرقية التابعة للتاج البريطاني، وقبل أن يصبح سلعة تروجها تلك الشركة حول العالم دخل الشاي أوروبا عن طريق البرتغاليين بعد وصولهم للهند، وقع بعض البرتغاليين في حب هذا المشروب السحري وكانت من بينهم الأميرة كاثرين بارغانزا التي نقلت حب الشاي معها إلى بريطانيا بعد زواجها من تشارلز الثاني ملك إنجلترا، نشرت الأميرة البرتغالية حب الشاي في أوساط العائلة الملكية والطبقة الأرستقراطية وحولته إلى وجبة ثابتة في منتصف اليوم، ثم شاعت تجارته في بريطانيا ومستعمراتها في الخارج خاصة في أمريكا، حتى أصبح مشروباً عالمياً.
كفتة داود باشا
يُعد داود باشا عبد الرحمن الذي تولى ولاية مصر عام 1538م سفير الطعام التركي في مصر، فقد أدخل العديد من الوصفات التركية إلى المطبخ المصري، عُرف بولعه بالطعام وخاصة الكفتة على الطريقة التركية؛ لذا ارتبطت في مصر به فسُميت على اسمه، كما أنه أضاف السجق والشركسية والكباب إلى مائدة المصريين.
مهمة خاصة جداً.. جاسوس الشاي
احتاجت شركة الهند الشرقية في القرن التاسع عشر جاسوساً من نوع خاص، كانت الأزمة قد احتدمت بينها وبين الصين بسبب الأفيون الذي تصر بريطانيا على ترويجه في الصين مقابل الشاي كي تحمي ميزان مدفوعاتها من العجز وفي ذات الوقت تحافظ على إمداداتها من السلعة الرائجة، هنا تبرز مهمة الجاسوس الخاص في جمع بذور الشاي وكافة المعلومات عن طريق زراعته وصناعته، لذا قفز إلى أذهان مسؤولي الشركة اسم "روبرت فورتشن" عالم النبات الذي عاد لتوه من رحلة غامضة في الصين، تم تكليف فورتشن بالمهمة وسافر بالفعل إلى هناك جامعاً كل ما وقع في طريقه من شيء يخص الشاي وصناعته، وبفضل نجاحه في المهمة تحولت الهند كمستعمرة بريطانية بعد عقدين إلى أكبر منتج للشاي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.