“التعددية وأزمة بناء الدولة في موريتانيا” قراءة لأحد أهم الكتب السياسية

عربي بوست
تم النشر: 2022/05/21 الساعة 08:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/05/21 الساعة 17:18 بتوقيت غرينتش

يتناول كتاب بون ولد باهي، "التعددية وأزمة بناء الدولة في موريتانيا: دراسة في إمكانيات الوحدة من خلال التنوع"، قضية مهمة وحساسة في المشهد السياسي والاجتماعي في موريتانيا. يقسم المؤلف كتابه إلى مقدمة، وفصلين، الأول تحت عنوان الدولة في الأدبيات العربية والإفريقية، والفصل الثاني التعددية، الدولة وإمكانيات الوحدة من خلال التنوع في موريتانيا، وخاتمة، ويقع في 186 صفحة، من منشورات: المركز الموريتاني للدراسات والبحوث القانونية والاقتصادية والاجتماعية 2021.

يناقش الفصل الأول من الكتاب، الدولة في الأدبيات العربية والإفريقية، تاريخها وظروف نشأتها بالاشتباك مع الدراسات ونظريات كبار الباحثين والمفكرين السياسيين التي تناولت الدولة في القطرين العربي والإفريقي. ويرى المؤلف أن الأدبيات المتعلقة بالدولة العربية إذا كانت تختلف في اقترابها وفي دلالة المفاهيم المتعلقة بها، فإنها تكاد تتفق على وجود ثلاثة اقترابات أساسية: المقترب الأول شمولي، يتخطى حدود الدولة العربية القائمة في الوقت الراهن، يطلق عليه: القومية العربية والحس الإسلامي، والمقترب الثاني والثالث: جزئي وتجزيئي، يطلق عليه: القطرية، أو الإقليمية، أو هو باختصار: مقترب التجزئة السياسية.

كتاب التعددية وأزمة بناء الدولة في موريتانيا

ويشير المؤلف إلى أنه على الرغم من التنوع الذي يميز مختلف الأنحاء العربية فإن اللغة والدين يشكلان عنصرين مشتركين بين معظم العرب، فقد استقى العرب شعورهم بالهوية القومية من اللغة وحضارتها، كما أن الدين الإسلامي، أعطاهم حساً بالهوية الجماعية التي تلتقي وتصب في المجرى القومي في غالب الأحيان على حد تعبير إيليا حريق.

ويعطي مثالاً على ذلك بالقطر الموريتاني، الذي تتصارعه هويتان: هوية عربية حيث غالبية السكان المحليين، وهوية إفريقية تدعو لها الأقلية الإفريقية. وهو الأمر نفسه الذي يلحظ بحدة في بعض الأقطار العربية الأخرى، حيث لم تعد اللغة العربية كمقوم من مقومات الهوية، هي السائدة في المجتمع: كما هو الحال مثلاً في الصومال، وجيبوتي، وجنوب السودان الذي انتهى به المطاف إلى الانفصال، ليشكل دولة تضيف رقماً جديداً لدول القارة. ويبيّن أن أزمة الهوية السياسية تعد من أخطر معوقات دولة ما بعد الاستعمار على أصعدة عديدة: سياسية، واقتصادية، واجتماعية وثقافية، وليست الأعراض المرضية لمجتمعات اليوم، سوى أحد تجلياتها في حياة الناس اليومية.

ويلاحظ المؤلف أن الدولة الإفريقية الحديثة نشأت مبتورة عن ماضيها بفعل المستعمر الأوروبي الذي أوجدها إبان القرن التاسع عشر ونقل تجربته ومفهومه للدولة إليها نقلاً مشوهاً وقاصراً، ولم يأخذ في الاعتبار خصوصية المجتمعات الإفريقية الإثنية والثقافية، وبالتالي تحمل في طياتها جينات مرضية، فرضت عليها المنشأ الخارجي للدولة، واتساع الهوة بين طبقة الحاكمين والمحكومين، والتبعية للأجنبي.

يُكمل ولد باهي أن التبعية في إفريقيا ضعف الانتماء الوطني الذي يصبح أكثر ارتباطاً بالقبيلة والإثنية والجهة من الدولة نفسها، ويصبح الفرد بذلك يحدد موقعه في المجتمع بانتمائه إلى القبيلة أو الجهة، أو الإثنية وليس للوطن. نتيجة بقاء قوة القبيلة في مقابل ضعف الدولة، وعجز الدولة أمام تكوين مجتمع وطني موحد بقيمة توجهاته وتطلعاته القومية، وبالتالي ترك المجال لنفوذ البنى التقليدية، وهو ما يلحظ في جميع ميادين الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، من رشوة ومحسوبية وفساد إداري.

في الفصل الثاني من الكتاب، يحاول المؤلف الإتيان بمظاهر التعددية في موريتانيا ويبيّن أنها في المرحلة الأولى موريتانيا قبل الاستقلال، تميزت بـ"فوضى السياسية"، لعدم وجود اتفاق حول من يحكم وغياب سلطة الدولة، وفي المرحلة الثانية، موريتانيا بعد الاستقلال، تميزت بـ"أسوأ التمركز".

ثم يتناول مفهوم دولة ما بعد الاستعمار، ويرى أنه ينطبق على موريتانيا، بحيث عانت الصراعات العرقية، وعدم الاستقرار السياسي، وشهدت منذ الاستقلال الكثير من الأحداث العرقية التي تسببت في انقسام المجتمع على أساس اللون والعرق، وحالت دون وحدته واندماجه، وكانت مآلاته مأساوية في الكثير من الأحيان.

وفي نظره أن إشكالية بناء الدولة في موريتانيا تتميز بأربع خصائص هي:

غياب الدولة المركزية تاريخياً، ثانياً، الدولة المنشأة للدولة، ثالثاً، الحكم العسكري، ورابعاً، تعدد وتنوع مكونات ومشارب المجتمع الموريتاني.

ذلك أن نشأة الدولة لم تكن استجابة لتطورات وتفاعلات مجتمعية داخلية، وإنما كانت مفروضة من الخارج، فكان من الطبيعي أن تكون عملية التحول والانتقال التي واكبت الكيان الموريتاني، تطرح مجموعة من العوائق، بعضها مرتبط بماضي هذه الدولة، والبعض الآخر بإرث المرحلة الاستعمارية.

ويتوصل ولد باهي إلى أن المجتمع الموريتاني ليس مجتمعاً انقسامياً بالمعنى الدارج، وإنما عرف منذ تشكله السلطة السياسية قبل تمأسسه (شيوع القبيلة)، وبعد مأسسته (ظهور الإمارة). وأن الدولة الجديدة بعد أن قطعت مع النظام الاجتماعي القديم، مبتورة محاصرة بالأزمات والمشكلات الموروثة، كمشكل الهوية، والاندماج المجتمعي، وشرعية النظم السياسية؛ كما لعبت عملية وضع الحدود دوراً سلبياً في اندماج المجتمع، إذ جاء التقسيم الإداري للكيان الجديد مشكلاً حاجزاً أمام اندماج المجموعات العرقية، عندما تم ربط القبائل العربية بأشقائهم في كل من المغرب والجزائر، والقبائل الزنجية بأشقائهم في دولتي مالي والسنغال، فضلاً عن اللجوء إلى تقسيم القبيلة الواحدة بين أكثر من بلد.

ويضيف أن من أسباب فشل الدولة الموريتانية في دولنة المجتمع هو أن المجتمع الموريتاني حديث العهد بأعباء الدولة ومؤسساتها، فضلاً عن ذلك منذ عام 1978 عانى من ظاهرة الانقلابات العسكرية المنتظمة، ومن تدني الأداء الإداري والاقتصادي والمؤسسي، وهذه المعوقات البنيوية التاريخية، الاجتماعية، السياسية حالت دون اندماج المجتمع وتسببت في أزمة بناء الدولة.

وفي معرض حديثه عن نظام الحكم العسكري، يشير ولد باهي إلى نقطة مهمة وهي أن معظم "قادة اللجنة العسكرية للإنقاذ الوطني"، الذين قادوا الانقلاب، كانوا من العسكريين العرب إلا أنهم ضموا بعض العناصر الزنجية. وكان من خيارات اللجنة العسكرية التعريب، إلا أن إضراباً ضخماً قام به الطلبة السود تنديداً بهذا الخيار وأعلنوا: "أن الزنجي لا يزال مواطناً من الدرجة الثانية".

لقد مثلت هذه المرحلة بالنسبة للباحث أقسى أنواع السلطوية، وارتفاع وتيرة الإضرابات والمظاهرات، وتعميق مشكلة الهوية، ويدلل على ذلك بظهور حركة "فلام" العنصرية، التي خططت للعديد من المحاولات الانقلابية كان أخطرها محاولة انقلاب 1987 الفاشلة التي لم تكن تهدف إلى تغيير النظام فقط، وإنما إلى تغيير جوهر الدولة وهويتها العربية. وهو ما يسميه الباحث الموريتاني حماه الله ولد سالم بـ"الانقلاب العرقي".

وبحسب ولد باهي فإن أهم مشكلة واجهت نظام معاوية ولد الطايع شبه الديمقراطي هي مشكلة حقوق الإنسان، بالنظر إلى ارتباطها بالمجموعات الزنجية من جهة، ومن جهة أخرى بمجموعة الأرقاء السابقين، وهو ما انعكس بشكل واضح على التعددية وأزمة بناء الدولة، بسبب البعد العرقي الخطير لهذه القضية.

يأخذ ولد باهي على النخبة الموريتانية، في معالجتها لمسألة التعددية، أن جهودها انصبت أساساً على الوحدة السياسية، باعتبارها أن تحقيق الوحدة السياسية قد يقود حتماً إلى تحقيق الوحدة الوطنية، وهذا ما لم تؤكده الخبرة الموريتانية.

ويقترح المؤلف ثلاثة نماذج معروفة في أدبيات الوحدة من خلال التنوع كانت ناجحة في بعض البلدان ولم يأخذ بها في الحالة الموريتانية، وهي: النموذج التوحيدي الذي يقوم على مجموعة من الاستراتيجيات أو الخيارات الهادفة لبناء التكامل القومي، وتحقيق الوحدة من خلال التنوع، عبر آليتين هما آلية الوحدة من خلال الاستيعاب، وآلية الوحدة في ظل التعدد. النموذج الثاني، الديمقراطية التوافقية متتبعاً أثر بعض منظري الديمقراطية التوافقية الذين اقترحوها كحل سحري لمشكلة المجتمعات التعددية، على سبيل المثال، آلان تورين، وآرنت ليبهارت، ومؤيداً لما ذهب إليه عزمي بشارة بأنه يمكن تجنب النتائج الكارثية للديمقراطية التوافقية في المنطقة العربية، وخصوصاً حالتي لبنان والعراق.

ويخلص ولد باهي إلى القول إن الديمقراطية التوافقية قد تكون النموذج الأنسب لموريتانيا، وإن كانت دأبت الأنظمة السياسية على فرض نوع من المحاصصة على مستوى هرم السلطة بين مكونات المجتمع الثلاثة: العرب، الأرقاء السابقون (وهم عرب)، والزنوج (وهم أفارقة)، عبر تخصيص منصب الوزير الأول لمكون من هذه المكونات أو منصب رئيس المجلس الدستوري أو رئيس البرلمان، إن كان يؤخذ على هذه المحاصصة أنها غير اتفاقية وغير منظمة بالقانون وأقرب إلى فكرة الإشراك منها للتوافق.

ثالثًا، النموذج الدستوري، يقول المؤلف: إن دستور 1991 تضمن بعض الترتيبات لضمان التناوب السلمي للسلطة، ولكنه لم يكرس مبدأ تقاسم السلطة وإشراك القوميات الوطنية الموجودة في البلاد. وفي تعديلات 2012 تطرقت هذه التعديلات لقضية الاعتراف بالتعددية الثقافية التي تثيرها قومية الزنوج، بشكل مباشر عبر إضافة فقرة خاصة بها في ديباجة الدستور. يؤكد المؤلف على أن دسترة هذه المقتضيات لصالح تحقيق السلم الاجتماعي، لا تغني عن الحاجة إلى القيام بانتفاضة دستورية تطال مختلف المسائل الخلافية الأخرى، كمسألة توزيع السلطة والثروة وغيرها، من أجل تحقيق وحدة في ظل التنوع، ويعتقد أن الحل الدستوري هو الأمثل لذلك.

وفي الأخير يحذر المؤلف من مسألة تعميم النتائج، رغم أنها من أهم مميزات وخصوصيات العلم، باعتبار أن هذه النماذج، لم تفرض نفسها بعد كنماذج معترف بها في أدبيات علم السياسة؛ ما يجعلها قد تكون أنسب لبعض الدول والمجتمعات دون غيرها.

ختاماً، يعتبر هذا الكتاب مهماً جداً، لا سيما عن أهمية الوحدة الوطنية والدور الذي يمكن أن تلعبه في بناء الدولة الوطنية وإقامة نظام ديمقراطي راسخ. يمكن أن يكون الكتاب حجر الزاوية لبناء دراسات حول الديمقراطية والتعددية والدولة في موريتانيا، فهو من الكتب القليلة التي تتناول هذا الموضوع المعقد للغاية، والدراسات في هذا المجال نادرة جداً خاصة التي ربطت الديمقراطية بالتعدد الإثني في موريتانيا.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

التاه محمد حرمه
كاتب موريتاني
كاتب موريتاني
تحميل المزيد