صحفية بدرجة إنسانة.. من يعوّضنا عن رحيل شيرين أبو عاقلة؟

عدد القراءات
5,389
عربي بوست
تم النشر: 2022/05/12 الساعة 10:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/05/12 الساعة 10:57 بتوقيت غرينتش

حين عرفت أن شيرين أبو عاقلة عمرها 51 عاماً صُدمت؛ ففي عقلي شيرين على الدوام صغيرة، شابة، لا تكبر، جميلة، مشرقة، هادئة مهما حدث حولها، وكأنها ملاك لا تتبدل ملامحه، لكني حين عرفت عمرها شعرت أن ما ينطبق علينا ينطبق على شيرين أيضاً؛ فهي ليست ذلك الكائن الأسطوري كما اعتقدنا دوماً.

حين غطت أصعب الأحداث، رافقنا صوتها ورباطة جأشها في أشد مراحل القضية حساسية منذ الانتفاضة الثانية، واجتياح جنين الأول، ومحاصرة كنيسة المهد، إلى محاصرة المقاطعة، وموت ياسر عرفات، والحروب المتتالية، والاشتباكات الدائمة مع الاحتلال، وإرهاصات الانتفاضة الثالثة، وطرد عائلات الشيخ جراح.

نحن الزبائن أنانيون؛ نعتقد أن النجوم الذين نحب لا يكبرون، الذين يقدمون لنا الحقيقة، دوماً أقوياء، هذا الاعتقاد في داخلنا عن القوة الخالدة داخل شيرين، جعل موتها صدمة وكأنها لا تموت، تعودنا وجودها في المواقع الخطرة، ولم نعتقد أنها ستلفظ أنفاسها يوماً هناك.. الجموع لا تصدق، لم تنم الليلة.

الشهداء أنفسهم جميعاً حين يقامرون الموت في تلك اللحظات الخطرة يصعب علينا تصديق موتهم، وهنا تأتي بلاغة الآية من القرآن: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون).

شيرين لم تتزوج ولم تجلس مع أهلها الوقت الذي يجب، لم تودع أخاها المسافر كما يجب، كانت دائماً في العمل وتطل على المنزل، ثم تعود إلى الميدان، وهو ما قدمته بحب، فلا أذكر أن شيرين أبدت يوماً ندمها؛ لأن لديها عائلة كبيرة جداً، وأبناءً وبنات كثيرين، يسألون عنها وتسأل عنهم، لا يتركون لها فرصة كي تشعر بالوحدة، إنهم عائلات الشهداء والبيوت التي هدمها الاحتلال، وأمهات وأشقاء الشهيدات، فمحظوظ الصحفي الذي ينجح في مهنته ولا يخسر أبطال قصصه على مر السنين.

 أذكر مقابلتي لها بعد حصار كنيسة المهد ومخيم جنين عام 2002، قالت لي: "يا دوب لحقت أقعد مع أخوي اللي إجى زيارة من أمريكا بعد سنين، والآن يجب أن أرجع للمكتب، أمني نفسي أني سأسهر معه الليلة".

كانت دوماً تشعر أنه سيأتي يوم تجلس معهم الوقت الكافي، لكن لم يأت هذا اليوم، ولن يأتي، إنسانة أحبت عملها، أخلصت له وللقضية ببساطة دون شعارات، كما ماتت دون شعارات، بل تحت شجرة خروب تنتظر حكاية أخرى لتغطيتها، فأعادت الاهتمام إلى القضية كما تفعل دوماً، لكن هذه المرة بدمها، وجذبت انتباه العالم إلى بقعة التراب التي اغتيلت عليها كما لم تفعل الحروب، ولم تفعل المفاوضات.

لم تستطع تغطية الحدث هذه المرة، ولم تكن تعرف أنها بعدما صرخت "علي تصاوب" عن زميلها علي السمودي الذي رافقها في الصباح وأصيب برصاصة في ظهره، سيوجه الاحتلال الإسرائيلي رصاصته إليها، بل تحديداً إلى الجزء الذي لا تغطيه خوذة أو واقي الرصاص، تحت أذنها تماماً.

شيرين أبو عاقلة التي ظهرت في كل الأحداث التي مرت بها فلسطين، على مدار عمر قناة الجزيرة 25 عاماً، إذا سمعت صوتها، فاعرف أن هناك حدثاً جللاً، استرعى انتباه جيل بكامله، بل جزءاً من ذاكرته الحية قبل أن يخسر أيقوناته عاماً بعد عام.

 شيرين أبو عاقلة المرأة

اليوم هناك شعور عام مع فقدانها بيتم القضية، لن تكون تغطية الأحداث كما كانت يوماً، سينقصها دوماً اتزان ورؤية شيرين الموضوعية، وصوتها الذي يحول أعتى المصائب إلى قابلة للاحتمال عبر عقلنة الحقائق، ورؤيتها حقوقياً، فشيرين لم تحول يوماً أحداثنا إلى شأن عاطفي وشخصي رغم أن هذا لا ينقصها في بعض مواضع كما حدث في تغطيتها حي الشيخ جراح.

 إلا أنها علمتنا الدقة كما يليق بأي صحفية عالمية؛ فهي ليست ذاك النموذج الصارخ الذي يركض وراء الأحداث ليغطي "سكووب" واحد في حياته، أو الذي يهول الأمور ويشخصنها كي يظهر بطلاً، بل كان ظهورها وحده يحول كل حدث إلى "سكووب" لا تستطيع مع صوتها ألا تنظر إلى الشاشة، سواء كنتَ في مقهى، أم في الشارع، أم في المنزل.

وبعد كل هذا، لن يفكر احتلال كإسرائيل إلا بأن تكون هدفه الأول في الضفة الغربية، التي نخرها التنسيق الأمني وتسليم المقاومين، فلم يبقَ شهود على الانتهاكات سوى الصحافيين، خاصة أولئك الذين لا يتعبون، ولا يملون من نقل جرائم الاحتلال، لقد أصبحوا هم المقاومين الحقيقيين على الأرض، ومع ذلك لم يحيدوا يوماً عن المهنية، ولم يتبنوا رواية واحدة دون تبيان الصورة كلها، إنه كما المشي على الحبل، كيف تكون مهنياً ووطنياً، هذا ما ستبقى تعلمه شيرين أبو عاقلة لجميع الأجيال الصحفية القادمة.

واليوم قطع الاحتلال هذا الحبل، وقنصها في مقتل، ليقول: إن كل من في المشهد عدو، سواء صحفي أم حقوقي أم ناشط أم مدني أم مقاوم، دون حتى أن تكون هناك حرب، يكفي أن تقف مع الضحية؛ لذلك لم يكن مقتل شيرين سوى عار كبير وجديد يتلبس جيش الاحتلال الإسرائيلي، والذي تخبط ونشر أكثر من رواية عن حقيقة ما حدث، فبعد أن اتهم الجيش مسلحين فلسطينيين اشتبكوا مع جنود الاحتلال في أزقة جنين، وبث على حسابات قادته ومتحدثيه مقطع فيديو من هذا الاشتباك، تحت ادعاءات كون المسلحين هم من أصابوا شيرين، سرعان ما غير روايته، وتراجع عنها ليقول رئيس أركان هيئة الجيش الإسرائيلي أفيف كوخافي: "في الوقت الحالي لا يمكن تحديد النيران التي أصيبت بسببها مراسلة الجزيرة". وأعلن فتح تحقيق في الحادث.

ووفق تحقيقات كل من الجزيرة ومنصة مسبار لفحص الحقائق وصحيفة هاآرتس؛ فإن المسلحين كانوا يبعدون عن شيرين نحو 260 متراً في منطقة مغلقة داخل أزقة وبين المنازل، بينما استشهدت أبو عاقلة في منطقة مفتوحة على امتدادها، وعلى بعد 150 متراً منها تقف وحدة للجيش الإسرائيلي مطلقة النيران.

وهو الأمر الذي أكدته شهادات الصحفيين الموجودين لحظة قتلها، سواء زميلها علي السمودي الذي أصيب قبلها بدقائق، أم مراسلة ألترا صوت شذا حنايشة، التي كانت بجانبها عند استشهادها، ولم تستطع حتى أن تمد يدها إلى زميلتها من هول إطلاق النار المكثف، الذي استمر حتى بعد أن لفظت أبو عاقلة أنفاسها الأخيرة.

لم يعد الأمر يحتاج إلى شرح ملابسات الحادث لنستطلع مصدر الرصاص، لكننا تعلمنا من أبو عاقلة الرد على كل حجج الاحتلال بالمنطق والبراهين، هذه كانت مدرستها الصحفية، فلا يكفي أن ندين ونستنكر، بل أن نبرز جميع الحقائق بموضوعية، حتى لو كنا جثثاً نقاد إلى مذبح الحقيقة.

لا تتغير ملامح شيرين في رأسي، كما لا يتغير صوتها، ثابتة في الميدان، ثابتة في الأداء، لم تسقط سوى بعد رصاصة "مش طايشة"، اغتيلت شابة، وستبقى في ذاكرتنا نضرة، لن نتذكر يوماً أنها ماتت في الـ51 من عمرها، بل تلك الشابة المبتسمة وسط شعرها المتطاير.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أسماء الغول
كاتبة فلسطينية
تحميل المزيد