قلبها رقيق للغاية ولها الفضل في إنجاز مهم بحياتي المهنية.. قصتي الخاصة مع شيرين أبو عاقلة

عدد القراءات
2,291
تم النشر: 2022/05/12 الساعة 09:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/05/12 الساعة 09:35 بتوقيت غرينتش

"حافظي على سلامتك كي يبقى الطريق إلى الحقيقة مضيئاً". 

هكذا علمتنى شيرين أبو عاقلة أولى قواعد المراسل الصحفي في مناطق النزاعات والحروب.

تلك المعلمة التي كنت أراها وأنا طفلة عبر شاشات التلفزيون، بوجه بريء وصوت هادئ عميق، تقف لتنقل لنا نبض وصوت الانتفاضة الثانية وثورة الحجارة ضد الاحتلال الإسرائيلي عقب مقتل الطفل محمد الدرة.

لم أنسَ صوت شيرين وهي تردد حينها: "لن تمحى صورة الدرة من ذاكرة الأمة"، ليأتي اليوم الذي تضاف فيه صورتها إلى ألبوم صور قرابة 60 صحفياً فلسطينياً استشهدوا منذ الانتفاضة الأولى وحتى اليوم.

ولتنسج أيقونة جديدة لإحياء القضية الفلسطينية في المحافل الدولية بعدما خلقت حالة من التضامن الواسعة بمقتلها بهذا الشكل المروع، ولتذكرنا في كل لحظة بأن صوت الحقيقة حي لن يموت.

مئات من التغطيات وآلاف الأحداث قامت بتغطيتها شيرين؛ لتبقى حية مساهمة في توثيق الانتهاكات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل.. ماتت شيرين وسيبقى أثرها حياً. 

"الموت كان أحياناً على مسافة قريبة.. كنا لا نرى بيوتنا"

خلال مشوارها المهني نجحت شيرين أبو عاقلة في حفر اسمها ليس في تاريخ المهنة فحسب، ولكن في وجدان كل بيت فلسطيني وعربي.

مع تأسيس قناة الجزيرة احتلت القضية الفلسطينية مساحة واسعة من التغطيات الاخبارية من وقت لآخر؛ حيث استطاع مراسلو الجزيرة هناك تشكيل حالة من الذاكرة الجماعية للقضية، فربطونا بهم، وعمقوا ارتباطنا بها.

فوليد العمري الذي شاب شعره على الشاشة، وشيرين أبو عاقلة، وجيفارا البديري، وإلياس كرام، جميعهم عشنا معهم مراحل تطورهم حتى نضوجهم على الشاشة.

دورها لم يكن أمام الكاميرات فحسب، بل لشيرين وجود في كل بيت؛ حيث كانت تنقل الأحداث في فلسطين بروحها، ففي بيت كل شهيد كانت هناك تواسي الأهل رغم التغطية الأخبارية، واثقة من خطواتها، وهي تقف أمام جنود الاحتلال تفتح الكاميرا وتنقل الحدث حياً دون رتوش، فيصل مباشرة إلى قلب ووجدان المشاهد.

عادة ما تضع المراسلات والمذيعات مساحيق التجميل لتظهر في أبهى صورة، لكن شيرين وجيفارا وغيرهما يغطي الإرهاق وجوههن، تتغير شيفتات المذيعين في الاستوديو، بينما يبقين بالساعات، وأحياناً بالأيام في قلب الحدث دون كلل أو ملل، بل كانت تشعر وكأن شيرين خُلقت لتكون الصوت الحي للشعب المحتل لتبقى الرسالة قوية.. صادقة.. حية.

عندما كنت أتحدث مع طلابي في كليات الإعلام عن سمات المراسل الحربي والصحفي في مناطق الحروب والنزاعات، كانت صور ومواقف شيرين أبو عاقلة حاضرة، فهي النموذج الحي للاستشهاد بمهنيتها.

بساطة الطرح والتفاعل مع الحدث بشكل إنساني أبرز ما يميزها.. أتذكر جيداً صورتها وهي تجلس على كرسي بوسط حي الشيخ جراح كنوع من التضامن مع أهالي الحي الذي يرغب الاحتلال في السيطرة عليه.. جلست شيرين على غير عادتها وبدأت رسالتها "قاعدين هنا".

فدائماً ما كانت تترجل في شوارع فلسطين لنقل رسالتها، رافضة البث من داخل المكتب، ونتذكر جميعاً رحلتها بالسيارة وهي تجوب في شوارع تل أبيب لتوثيق اختفاء السكان خوفاً من قنابل المقاومة الفلسطينية.

هناك صورة شهيرة لها عندما قامت قوات الاحتلال بإطلاق النيران على بعد أمتار منها، بينما هي تبث رسالتها حية، ورغم هول المشهد والرهبة التى أصابتها فإنها أكملت تغطيتها ورفضت قطع البث حتى تنتهي.

غضبها خلال اعتقال صديقتها جيفارا البديري العام الماضي وضحكتها وهي تجلس مع الشباب على سلالم المسجد الأقصى خلال شهر رمضان الماضي خلال تغطية محاولات اقتحام الأقصى.

كل هذه نماذج لمشوار حي للنضال الصحفي من أجل الوصول للحقيقة، فعبر الشاشة لمسنا وعايشنا تطور شيرين ونضوجها عبر مشوار دام لمدة 25 عاماً. 

فكلما وقع حدث في فلسطين تجد نفسك بشكل آلي تذهب إلى الجزيرة لتشاهدها هي وزملاءها ينقلون لنا الحدث دون رتوش، فكانوا صوتاً لنضال القضية الفلسطينية.

 مواقف لا تمحى من الذاكرة 

في ٢٠٠٧ قابلت الصديق العزيز تامر مسحال في بريطانيا، خلال دورة تدريبية لمؤسسة رويترز، وكنت حينها في منحة من مؤسسة هيكل للصحافة العربية، أخذنا الحديث، وكان حينها يرغب في العودة إلى غزة ليكون صوت الشعب الغزاوي، رغم العروض المغرية له من مؤسسات دولية.

حلمنا بالانضمام لفريق الجزيرة؛ لنقترب من مراسلي قناة الجزيرة بفلسطين، فهم نموذج نتمنى جميعاً أن نقف موقفهم.

 فعلى الرغم من وصف مهمة المراسل في مناطق النزاعات والحروب بأنها مهمة انتحارية، فإن لنقل صوت الحقيقة من أرض الميدان سحراً يجذب الصحفي المحب لمهنته.

فلولاهم ما أحببت صحافة نبض الشارع وهي الصحافة الحية غير المعلبة.

وبعد ذلك بشهور وقع العدوان الإسرائيلي على غزة، وذهبت لتغطية الأحداث لأول مرة إلى قطاع غزة. 

وهناك وفي مساء أحد الأيام اشتدت الضربات الإسرائيلية فذهبت لمبنى الجلاء في وسط غزة؛ حيث مبنى القنوات الإعلامية العربية والدولية للاحتماء فيه (وهو المبنى الذي استهدفه الاحتلال الإسرائيلي قبل عام، وتحديداً يوم ١٢ مايو/أيار ٢٠١٢ وهدمه بالكامل بعد تفجيره). 

وهناك قابلت تامر مرة أخرى، بعدما أصبح مراسلاً لقناة الجزيرة، هناك رحب بي سريعاً، وأرشدني لمكان أحتمي فيه، وذهب مسرعاً مع فريقه لتفقد آثار الغارة الليلية.

بينما كانت الزميلة شيرين أبو عاقلة في اجتماع مصور "الفيديو كونفرانس" مع زملائها في مكتب غزة للاطمئنان عليهم، والتشديد على تتبع كل خطوات السلامة والأمان، وهي المعروفة بتشددها في الحفاظ على نفسها واتباع إجراءات السلامة.

كانت تتحدث مسرعة قبل انقطاع الكهرباء، لكن ارتبطت في ذهني بقولها: "حماية نفسك حماية لبقاء صوتك ودورك في نقل الحقيقة". 

لم أتخيل كم البساطة والتواضع والحب والاحترام من وإلى الجميع.

تأثيرها في حياتي


كان لشيرين أبو عاقلة معي مواقف لن أنساها؛ الأول إرسالها رسالة إشادة للمؤسسة التي كنت أعمل بها في بداية مشواري المهني عن تغطيتي للعدوان، ولا أعرف كيف فعلت ذلك في حق صحفية لم تتعرف عليها إلا لثوانٍ قليلة.

وفي عام ٢٠١٢ كانت غزة على موعد مع عدوان إسرائيلي جديد، ولكن جاء هذا العدوان بعد انطلاق الربيع العربي، الذي ساهم بقدر ما في انتقال التنديد العربي عبر البيانات الإعلامية إلى مواقف مؤثرة؛ حيث أعلنت القاهرة عن إرسال رئيس الحكومة إلى غزة، وهبّت الجامعة العربية من ثباتها، وأرسلت وفداً رفيع المستوى إلى غزة، وكنت أنا أيضاً على موعد جديد للذهاب لرحلتي التى أشتاق إليها.

 ذهبت هذه المرة وأنا أكثر اطمئناناً، على اعتبار أن إسرائيل لن تصل بغطرسطتها لضرب الوفد العربي، لكن جاء ما لم يتوقع، ففي أثناء مداخلة لي مع الجزيرة للتعليق على الزيارة قبل وصول الوفد العربي الذي كان بالقرب من بوابة رفح حينها، قام الاحتلال بغارة استهدف فيها شابين فلسطينيين على مقربة من مستشفى الشفاء، حيث مقر الزيارة.

صرخت بشكل لا إرادي خلال البث، فأنا أرى القذيفة التي فجرت جسدي الشابين على الفور، وظلت الصديقة العزيزة منى سلمان تطلب مني الابتعاد عن المكان، والحفاظ على سلامتى كأولوية.

بعد نصف ساعة وجدت اتصالاً عبر زميل فلسطيني معي، الاتصال كان من العزيزة شيرين أبو عاقلة، التي عرفتني بنفسها، ثم ظلت تشرح لي كيفية حفاظ الصحفي على سلامته، وجعلها أولوية، وظل صوتها الملهوف: "حافظي على سلامتك كي يبقى الطريق إلى الحقيقة مضيئاً" في مسامعي لم يغِب.

تلك اللهفة التي اختصرت مشواراً طويلاً من المعرفة، ومنذ ذلك الحين ونحن على تواصل.

مواقفها معي ممتدة؛ ففي يونيو/حزيران الماضي نظمت ورشة للأطفال العرب في بريطانيا عن فلسطين، وتحديداً عن المسجد الأقصى، وهنا تواصلت معها لمطالبتها بمساعدتي في الوصول لشخص يبث لنا من داخل المسجد الأقصى ليكون الشرح عملياً للأطفال، إلا أني فوجئت بها تبلغني بأنها ستقوم هي بذلك إذا لم تتطور الأوضاع وتنفجر مرة أخرى، ولكن بالفعل سرعان ما تطورت الأحداث وخجلت في الرجوع إليها إلا أنها لم تنسَ.

حيث أرسلت لي رسالة برقم أحد الشباب، بعدما اتفقت معه، وبالفعل عاش أولادنا عبر بث مباشر معه رحلة رائعة داخل المسجد الأقصى، بكى فيها الكبار والصغار من جمال وروعة المشهد، والشعور بأننا داخل الأقصى، ولو عن بعد، رحلة لن ينساها الأطفال الذي رسموا بعد ذلك رسومات رائعة للمسجد للأقصى، وكان الفضل في ذلك يرجع إلى شيرين.

شيرين التي وقف اليوم المسلم والمسيحي يصلي على جسدها المغدور به. 

لا أصدق أن تموت شيرين بتلك الطريقة، رغم أنها كانت تتمنى أن تقدم روحها فداء للحقيقة، كانت تصف دائماً المراسل الصحفي بجندي يحمل في يده ميكروفون وكاميرا وفي يده الأخرى روحه.

لم نتخيل يوماً أن تكون شيرين صوت الحقيقة وناقلة الخبر، هي الخبر الذي يصعب التعليق عليه، لن نصدق أننا لن نسمع مرة أخرى "معكم شيرين أبو عاقلة- رام الله- فلسطين".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

إيمان عبدالمنعم
صحفية مصرية
تحميل المزيد