في مقالي هذا سأسر إليكم بأمر لا أعرف هل مررتم به أم لا، فأنا أحياناً أعقد صداقات مع الأشياء، الروائح والأماكن.
ذات مرة في عامي الثالث الثانوي، كنت أخبر أستاذي في مادة الكيمياء "أستاذ حامد رحمه الله" عن مشاعري تجاه موادي الدراسية المختلفة- وقد كان صديقاً لأبي وكان يعتبرني بمثابة ابنته- وكانت مشاعري بين الحب والكره فقط وكنت أحكي بانفعال: ضحك أستاذي بشدة وقال إنني أعامل المواد الدراسية وكأنهم أناس حقيقيون!
وقد صدق أستاذي أحسن الله إليه، فقد كان هذا سلوكي مع أشياء كثيرة، ففي صغري كنت آلف غرفتنا أنا وأختي، فأقيم بها إقامة شبه دائمة، أحب مكتبي ولا أود تبديله أبداً، أحتفظ بالبطاقات الصغيرة من أهلي وصديقاتي، أحب أقلاماً من نوع معين، والألوان كذلك، أصادق كتباً بعينها وأتمسك بشدة وحتى الآن بدفاتري التي تحوي خواطري وأمنياتي وهمومي، أزينها بملصقات لشخصيات كرتونية أو زهور وفراشات وطيور.
كلما اعتدت على هاتف جديد، شعرت به جزءاً مني، فهو يعلم عما أبحث، ويحمل صوراً لأسرتي التقطتها للذكرى، تسجيلات صوتية لأطفالي، برامجي المفضلة، وإذا ما تعطل أستاء للغاية.
منذ فترة وجيزة صرت أحب أدوات معينة في المطبخ أشعر بأنها مساعدتي في مشقتي اليومية، أعلم أنها ربما تشعر بأهميتها عندي، باهتمامي بها، كلوح التقطيع الخشبي، المغرفة ذات النصل اللامع، مضرب البيض الأسود، القشارة، عصارة الليمون، أواني الطهي اليومية، كوبي الخزفي المزخرف، وبرطمانات الزجاج التي أجمعها في درج خاص بها!
عندما كنت أشتري الورود والزهور، كنت أشعر وكأنها صغاري، أقبلها بعد ذهاب أطفالي للمدرسة، أهمس لها بحب، أسقيها الماء، أظل اتأملها والسعادة تتلألأ في عيني، أودعها قبل أن أذهب لأخذ قسط من النوم، وعند ذبولها أحزن، وأشعر أن جزءاً ما في حياتي انطفأ! حتى إني لم أعُد أقتنيها؛ فقد تكرر ذبولها وموتها لأسباب عدة، وفي غالبها بسبب الجو الحار أو عواصف الرمال أو بُعدها عن المشتل الذي لا أعرف كيف يحافظون على نضارة الأزهار والورود فيه!
في صغري كنت أرى أحياناً شجرة ذات أوراق وأغصان ليست كالأغصان العادية، كانت وكأنها شعر ممشط يتدلى برقة على ضفاف القنوات ونهر النيل، أخبرتني أمي أنها شجرة الصفصاف، أحببتها بشدة، شعرت أنها فريدة لا تشبه الشجر الآخر، هي مرهفة رقيقة ثم إن لها نفس حروف اسمي، شعرت وكأنها أنا لكنها شجرة خضراء ساكنة، وأنا أدور في فلك الحياة المزعج!
عندما كنت أنهي عامي الدراسي الأخير في جامعتي كانت هناك حديقة عامة أمام كُليتي، كانت بها أنواع جميلة من الزهور وشجيرات الورد، اخترت شجيرة ورد أحمر مُعينة من بين أخواتها ولا أعرف السبب، فقد شعرت بالتآلف معها، ثم اعتدت أن أذهب أمامها وأجلس، أذاكر حيناً وأبثها همي في أحيان أخرى، كنت أعلم أن أحداً لن يلاحظ حديثي معها بسبب نقابي الأسود، لقد كان حارسي الخاص!
أعقد صداقة مع البحر، أخبره بأهم الأشياء التي حدثت منذ آخر مرة زرته فيها، أسكت، أنتظر جوابه داخل روحي، أتأمل أمواجه وصوت تلاطمها وأصغي، يشتتني أولادي أحياناً فلا أجد جواباً، لكن الراحة التي غمرتني تكفيني، أنظر له نظرة وداع وآمل بمرة قادمة أحدثه فيها!
عندما نعود إلى الوطن في الإجازة، أحب زيارة مطعم يطل على نهر النيل، أحبه بشدة في المساء مع الأضواء وانعكاساتها على صفحة النهر، أختار الجلوس أمام شجرة البونسيانا بأوراقها الخضراء ساطعة اللون وزهورها ذات اللون البرتقالي المحمر، وإذا كان القمر مضيئاً فيا لروعة المنظر واكتمال جماله، أحياناً يمر بعض الصيادين بقوارب صغيرة، فيحركون صوت النهر الهادئ، ويضطرب موج النهر غاضباً قليلاً ثم يعود لتموجه الرقيق، أحياناً أشعر أن جرعة الجمال هذه أكبر من احتمالي، أتفقد الناس المحيطين بي هل يتأملون مثلي؟
هل يلحظون ما أراه أم أنني غريبة الأطوار؟
أما عن الروائح فهذه حكاية كبيرة متنوعة بتنوع الروائح المختلفة، فبعض العطور لها مفعول السحر في دماغي، فأجدني فجأة وقد جحظت عيناي وركزت انتباهي وأصغت بكل جوارحي لعقلي، فيمر كقطار سريع للوراء، إلى ذكرى يعرفها ويدركها ليحضرها لي، فتارة هذه رائحة الروضة في أول يوم أدخل إليها دامعة باكية، وتارة هذه رائحة الطابق الأول من مدرستي الابتدائية حيث كانت تكثر أُصص الورود ونباتات الصبار المختلفة وحيث يقع مكاني المفضل "المكتبة"!
وكثيراً ما كانت الروائح تعود لقطع صابون متنوعة على مراحل مختلفة، ربما يراها كثيرون مجرد صابونة لا يذكرون اسمها حتى ولا وقته، لكنني أربط بين رائحتها وذكرياتي في هذا الوقت، فتارة أفرح وتارة أغضب وأحزن!
أحياناً أتمنى لو أعقد صداقات مع الطيور واليمام والخيول والأسماك، لكن هذا يعني امتلاكها وتلك مشكلة أخرى لا قبل لي بها ولا بتكلفتها على كافة الأصعدة!
تمتد قائمة صداقاتي مع الأشياء التي ربما ستكون أكثر غرابة، كقطع الأثاث مثلاً التي اعتدت عليها، أو حقيبة يدي، أو خاتم أحبه، وأشياء أخرى كثيرة، لكن هل كان كل ما قصصته عليكم غريب؟ أم أنكم أيضاً مثلي؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.