على الإذاعة الألمانية المحلية، يتوقف البرنامج فجأة ليبدأ فاصل إعلاني، صوت امرأة تسأل: "كن صادقاً مع نفسك وأجبني: متى كانت آخر مرة شعرت فيها بالسعادة؟".
مممم، لأصدقكِ القول.. لا أعرف!
فشتاء ألمانيا الثقيل هذا، مع سمت العمل المرهق المتواصل، لا يترك متسعاً كبيراً للتفكير بهذا الشكل، نحن هنا لا نطارد السعادة تحديداً، بل شكلاً ما من أشكال الحياة، ننهك أنفسنا فيه لنبدو أغنى، أهنأ، أجمل، أكثر خبرة ومهارة ربما، لكن "أسعد"؟ لا أظن!
بحسب هرم الاحتياجات البشرية، تقع ثلاثية (الطعام، والصحة، والأمن) في القاعدة السفلى العريضة، تماماً كما يخبر الحديث الشريف: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا".
وكثيراً ما يستعمل هذا الحديث كدعوة عامة إلى القناعة وحمد الله على نعم يفتقدها آخرون في بلدانهم ومدنهم، لكن الحديث ينص على أن هذه الثلاثية إنما هي "الدنيا" والدنيا فقط، ونحن بشر، كائنات تضيق بنا الدنيا عادة، ونتطلع إلى الخروج منها بالفكر والفن والخيال والمشاعر والإيمان، ولذلك فتحقق الدنيا بأكملها في أعيننا هو أمر لا يساوي السعادة مطلقاً!
في اللبنة الوسطى من هرم الاحتياجات البشرية تقبع الحاجات النفسية، من الحاجة إلى المحبة والشعور بالانتماء إلى مجموعة ما، بالإضافة إلى احترام الذات وشعور الإنجاز على المستوى الشخصي والعائلي والوطني، وهذه أمور لا يشتريها المال تماماً كما هو الحال في احتياجات قاعدة الهرم، لكن المال نفسه ذو أثر بالغ في تحقيقها، فأين ستكمن السعادة مثلاً في فقر مدقع يدفع المجتمع إلى الجريمة والاحتيال والفساد؟ وكيف سيتحقق احترام المرء لذاته وهو يرى أطفاله يتلوون جوعاً، أو قهراً بعدما عجز عن تلبية احتياجاتهم الأولية؟ وما هو مدى انتماء الشخص إلى وطنه ومجتمعه وهو يتعرض فيه -هو وأهله- للتضييق والتمييز على أساس الطبقة؟
في أعلى هرم الاحتياجات البشرية يتربع مصطلح "تحقيق الذات"، وفي الغرب يتم الاحتفاء كثيراً بمن يفصح للآخرين بأنه "بات أخيراً يعرف بالضبط ما يصبو إليه، وبات قادراً على تحقيقه".
تحقيق الذات يلزمه معرفة "الذات" هذه أولاً، والبحث عن شغفها الأكبر، ومن ثم الانطلاق بكل طاقة قصوى لمطاردة هذا الشغف، مطاردة تسير في مركب "الإبداع"، وهو إتيان المُبهرات من الأعمال والأقوال أثناء هذا السعي المبارك.
الشغف وحده هو ما سيفتح لك أبواب السعادة الحقيقية، حتى وإن كان -ظاهرياً- سيرديك أسير التعب والضنك وضيق الوقت، لكنك هنا تبذل ما تبذل فداء لنفسك، ولنفسك أولاً.
والسؤال هنا: هل ترى ما تقوم به اليوم وأمس وغداً ضليعاً بأن يوصلك إلى قمة الهرم إلى شغفك، إلى ذاتك، إلى سعادتك؟
أستيقظ من حلم اليقظة هذا الذي دار في خلدي بأجزاء من ثانية، وأعود إلى متابعة صوت السيدة على الراديو:
تعالَ معنا إلى منتجعنا الفاخر.. مطاعم، مولات، قاعات سينما، مدن ترفيهية.. وكل ما ينتظر العائلة التي تبحث عن السعادة.. عندنا هنا في "منتجع السعادة".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.