ماذا علَّمني الطفل ريان في خمسة أيام؟

عدد القراءات
40,516
عربي بوست
تم النشر: 2022/02/06 الساعة 11:19 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/02/06 الساعة 11:19 بتوقيت غرينتش
الطفل الراحل ريان

تعلقت قلوب ملايين العرب والمسلمين في جب الأمل منذ خمسة أيام، انتظروا فيها خبراً يهوّن عليهم أوجاعهم المتراكمة، يدفئهم من صقيع النكبات وبرد الأزمات، وتجمّعوا على هدف واضح وأمل واحد، كانت جل أمانيهم أن يخرج ريان سالماً أو حتى إلى غرفة الإنعاش، وكانت هناك مظاهرة تعاطف وثورة تضامن غطّت وسائل التواصل الاجتماعي بلون الإنسانية ووشاح التضامن وعطّرته بعطر الأمل.

مسكين ريان، سقط في بئر عميقة في عمر صغير، اجتمعت عليه أهوال الصدمة مع آلام السقطة، وأوجاع الغربة وبرودة الحرمان، ولعل هذا كان سر تعاطف الملايين ودعوات المتضامنين وتفاعل النشطاء غير المسبوق، أضِف إلى ذلك اهتمام الإعلام بقضية ريان؛ فريان هذا غير الطفل السوري الذي سقط عليه البيت، أو الذي مات على شاطئ اللجوء، أو الذي مات جوعاً في غزة أو اليمن، فكل من سبقوا تَعاطَف معهم أناس وسكت آخرون؛ لما للأمر من بُعد سياسي؛ فالتعاطف مشروط يا صديقي في عالمنا، فهناك أناس يؤمنون ببعض التعاطف ويكفرون ببعض! إلا أن الجميع تعاطف مع ريان -وهذا أمر محمود- لأنه سقط جريحاً في بئر غير بئر السياسة.

يقول المصلحون "لا تمُتْ دون أثر، ولا ترحل قبل أن تضع بصمة"، وهكذا فعل ريان، رحل ولكنه لم يرحل، مات رغم أنه لم يمت، رحل جسداً وألقى في قلوبنا -دون ترتيب- بحبال الحب، كما أُلقي -دون إنذار- في غياهب الجب.

رحل بعد أن وضع أنبوب الإنعاش في صدر الأمة فأحياها، أحيا فيها الأمل، وروى فيها التعاطف، وأيقظ فيها التفاؤل، وأعاد لها الوحدة، رحل بعد أن أحيا في الأمة القضية الواحدة والجسد الواحد، الذي إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء، أحيا في الأمة روح "وإسلاماه"، أحيا الأمة رغم أنه لم يحيَ أكثر من ذلك، فشكرا لك يا ريان، أحييت لنا موات القلوب "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً".

نثق يا ريان بأنك عند ربنا الرحمن، اختياره لك أفضل من آمالنا لك، وقدره لك أجمل من تخطيطنا لك، ورحمته بك أكبر من حب أهلك لك، فهنيئا لك يا طير الجنة، ويا ذخر الخير لوالديك.

شكراً يا ريان .. شكراً يا درتنا الجديدة، رحلت بعد أن بذرت فينا بذور الإحسان، ونثرت في أجوائنا عطور التعاطف والتقارب، رويت الأمة بدماء آلامك وصفاء ابتسامتك ورقة صورتك؛ فشكراً لك:

أيقظتنا ورحلت يا ريانُ وهززت فينا أننا إنسانُ

علمتنا يا ريان أن الأمة والشعوب يمكن أن تتوحد على أمر غير كرة القدم، وأن القلوب قد تنشد جميعها أملاً واحداً، وأن العرب والمسلمين قد يجتمعون على حلم واحد، وذكرتنا بأن الخير في أمة محمد إلى يوم القيامة .

شكراً يا ريان.. علَّمتنا أن نحيا بالأمل حتى لو كانت المعادلة صفرية، وأن نتشبث بحبال التفاؤل حتى لو كنا في قاع الخذلان، وأن نتلمس شعاع الضوء حتى لو كنا في ظلمات بعضها فوق بعض.

شكراً يا ريان.. علمتنا قيمة الحياة، وجعلتنا ندرك نعم الله؛ ففي الوقت الذي كنت جائعاً مصاباً في الجب كان الملايين ينعمون بنعمة القرب، يتقلبون في نعم الأمن والخير، ينظر أغلبهم للمفقود لا الموجود، يبحث عن الغائب قبل الشكر على الحاضر، علمتنا أن الحياة نعمة، وأننا لا بد أن نشكر الله بشكر هذه النعمة واستغلال كل لحظة في حياتنا قبل فوات الأوان، علمتنا أن موت بعض الناس حياة، وحياة بعضهم موت.

شكراً يا ريان.. علمتنا أن الحياة قصيرة، وذكرتنا بأن الآخرة هي الحياة وهي المستقر، وأننا كلنا في قاع جب الدنيا ننتظر لحظة الخلاص، علمتنا أننا من الأرض وإلى الأرض، وأننا لو اجتمع العالمُ لنفعِنا ما نفعَنا ولِضرِّنا ما ضرنا ما دام الله لم يأذن؛ فلِمَ التعلق بالخلق والخالق موجود؟ علمتنا أن نحدد البوصلة، وأن نوجه جل استعانتنا بالله، فهو القادر والرازق والمنجي، ونوقن بأن موتك نجاة يا ريان.

شكراً يا ريان.. رويت فينا شجرة الحب بدموعك في الجب، ذكّرتنا بأن العرب إخوة مهما أجادوا لهم ترسيم الحدود وصناعة الأزمات، أعدت لهم روح الإيجابية؛ فهذا يضرب بمعوله، وهذا يحفر بآلته، وهذا يدعو على سجادته، وهذا يتعاطف وينشر على صفحاته، والكل كان يُمسك بحبال الإيجابية ليخرجك من قاع الجب، فأخرجتهم من بئر السلبية والخذلان.. ثم رحلت.

شكراً يا ريان.. علَّمتنا أن نبدأ مبكراً قبل فوات الأوان، علمتنا أن نكون فعلاً لا رد فعل، أن نمهد الطريق قبل أن نبكي بعد مفترق الطرق، علمتنا أن نهتم بكل طفل سقط في بئر الخذلان، أن نتعاطف مع كل ريان مشرد، ونصل إلى كل غريب جائع، وأن نكون كساء لكل العرايا في البرد ولكل ريان في الهجير، علمتنا أن نهتم بأطفال المخيمات قبل أن نبكيهم، وأن نتعاطف مع أبناء المظلومين عملياً قبل أن نشكو حالهم، وأن نطعم الجوعى قبل أن نكتب نعيهم، وأن نروي كل ظمآن بماء الحياة كما رويتنا بدماء حياتك يا ريان.

شكراً يا ريان.. علّمتنا أن الخير في حكمة الله وفيما يقدره الله، ذكرتنا بأنه ليس شرطاً أن تنتهي كل القصص نهاية سعيدة، وأن نتوقع كل النتائج مع أخذنا بكل الأسباب التي توصلنا لما نحب، علمتنا أن نحيا بالأمل، وأن نتوقع المستقبل المشرق، وأن ننتظر الغد الأجمل.

سلام عليك يا صاحبي حتى نلقاك في أعلى الجنان، نثق أنك هناك فادع لنا أن نكون كذلك، ادع لنا أن نخرج سالمين من جب الغفلة وبئر التقصير، ادع أن تتوحد الأمة مع أطفالها المظلومين كما توحدت معك، وأن تواسي المحرومين كما تواسي أهلك، وأن تقف مع المظلومين قبل أن يبكوا عليهم، سلام عليك يا ريان حتى نلقاك هناك، حيث لا فراق ولا حزن ولا جوع ولا خوف ولا جراح ولا جب، سلام عليك يا صغيري، وسلام لقلب أمك ودموع أبيك ويقظة أمتك.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد فؤاد
كاتب مصري
تحميل المزيد