لكل أم حديثة العهد بالأمومة على الأخص.. احذري.. هذا الفيلم قد يُبكيكِ.
أوجّه كلامي لكل امرأة في العموم، لأنه في الغالب، لن يُشاهد الرجال هذه النوعية من الأفلام، رغم أنها قد تُكسبهم بعض الوعي، بما يدور بداخل الكثير من الأمهات، اللاتي يعجزن عن التعبير عن معاناتهنّ، ويكتفين بأن يرسمن على وجوههنّ قناعاً مُبتسماً، رغم الألم الذي يفوق الاحتمال.
ما زاد من تأثّري بالفيلم الصادر حديثاً A Mouthful Of Air، هو أنّه تجربة أغلبها حقيقي، عاشتها كاتبة الفيلم، وصوّرتها على الشاشة بصدقٍ يفطر القلب، الممثلة الشابة Amanda Seyfried، وهو ما جعلني أرى العالم بعيونٍ خائفة، وعقل مُشوّش، وقلب محطّم، مثلها تماماً.
أعلم أنّ الحديث عن هذا الأمر مؤلم، كذكرى الشهور الأولى بعد الولادة، وهو نفس الشعور الذي يتركه فيك الفيلم بعد مشاهدته، وكأنه يجعلنا نخوض تجربة الألم من جديد، إلا أنّه لا مفر من أن نواجه الوحش الذي يعيش بعقولنا نحن النساء، ولا يظهر إلا في الظلام، حينما نكون وحيدات تماماً.. وحش يُسمى اكتئاب ما بعد الولادة.
قصة فيلم A Mouthful Of Air
كان كل شيءٍ على ما يرام.. بل أكثر من هذا.. كان كل شيءٍ رائع فعلاً.. فـ"جولي" شابة جميلة، وزوجة مُحبة، وهي مؤلفة قصص للأطفال، وأم حديثة العهد بالأمومة لطفلٍ صغير.
كان كل شيءٍ في أحسن حال، ما عدا شيء واحد.. شيء يدور بعقل جولي، ولكنها تعجز عن وصفه.. شعور بالتعاسة لا سبب له، كآبة غير مُبررة فعلاً.
تُقاوم جولي ذلك الشعور، وتطرد تلك الأفكار الشريرة بعيداً، والتي تُخبرها بأنّها أم غير جيدة، وتحاول أن تتمسك بإحساس البهجة الذي يعتريها حينما تُداعب طفلها، أو تقضي وقتاً لطيفاً مع زوجها.
تُحاول جولي فعلاً أن تتشبث بكل لحظات السعادة التي تعيشها في يومها، ولكنّها ما تلبث أن تنفلت من بين أصابعها بكل سهولة.
بعدها تبدأ جولي في مرحلة جديدة.. مرحلة التظاهر بالسعادة وإخفاء الألم الذي تشعر به.. تتظاهر جولي أمام الجميع بمن فيهم زوجها، بأنّ كل شيءٍ على ما يرام.. تضحك بينما هي ترغب في البكاء.. تقوم بكل مهام البيت، ومراعاة طفلها وزوجها، بينما هي لا تريد أن تنهض من فراشها في الصباح.. هذا التظاهر يزيد الضغط على جولي أكثر فأكثر.. تزداد الأفكار سوءاً في عقلها أكثر وأكثر، لتصل إلى مرحلة أنّها تفكر بالثمن الذي يجب على أطفالها على أن يدفعوه، لمجرد كونها أمهم، وبأنّ أطفالها سيكونون أفضل في عالم ليست فيه.. حتى تعجز جولي عن التحمل.. وتجيء لحظة الانهيار.
حقيقة ممزوجة بخيالٍ سوداوي A mouthful of air فيلم
حينما وقع في يدي فيلم A mouthful of air والمأخوذ عن رواية بنفس العنوان للكاتبة Amy Koppelman، وهي نفسها التي قامت بإخراج الفيلم، وهي تجربتها الإخراجية الأولى، استطعت بقليل من البحث أن أعلم أنّ الرواية خيالية، ولكنّ القصة حقيقية لحد كبير، حدثت لكاتبة الفيلم نفسه.
تقول Amy إنّ شعور جولي بالعار، والاشمئزاز من نفسها، وحيرتها الدائمة، كل ذلك كان عائداً في الأصل إلى ما شعرت به Amy فعلاً، ولكن قصة محاولة إنتحارها لم تحدث لـ Amy، رغم أنّها كانت تود أن تموت، ولكنها لم تحاول أن تقتل نفسها من قبل.
هذا الخيال السوداوي كان من الممكن جداً حدوثه في حالة Amy، وكان ليكون نتيجة طبيعية لتطور حالتها، إن لم تتلق العلاج المناسب، وهو الشيء الذي دفع Amy لكتابة الرواية ومن بعدها العمل على الفيلم، حتى تعرف كل امرأة السيناريو الأسوأ في حالة رفضها للمساعدة.
تُخبرنا Amy ببساطة: لا تكوني مثل جولي، حتى لا تواجهي مصيرها السيئ.
لماذا تعجز الأمهات عن البوح؟
أثار الفيلم في نفسي الكثير من الأفكار والأسئلة، وعلى رأسها هذا السؤال، لماذا تعجز الأمهات عن البوح بما تعانيه من مشاعرٍ مؤلمة؟
وعلمت الإجابة على الفور بلا أي جهدٍ.. الأم هي الراعية لمخلوقٍ يعجز عن رعاية نفسه، مخلوق شديد الهشاشة، وهذا الضعف هو ما يجعل له الأولوية في كل شيء.
تقول الأم لنفسها:
"أنا أستطيع التحمل أكثر، لكنه لا يستطيع. بإمكاني أن أنام أقل، أو أتألم أكثر في فترة الرضاعة الأولى مثلاً، أو أُصاب بالإرهاق من السعي لتحقيق جميع التزاماتي الأسرية والمهنية والاجتماعية، بإمكاني أن أصبر وأتحمل لشهورٍ ولسنوات بلا شكوى، ولكنه لا يُمكنه أن يتحمل أياً من ذلك.
لا أستطيع أن أًعرّضه لأي شعور قد يؤذيه لدقائق قليلة حتى، ولا يُمكنني أن أشكو حتى من الألم أو التعب، لأني إن فعلت ذلك سأصبح أماً سيئة، ولا يُمكنني بأي حالٍ من الأحوال، أن تحمل مجرد فكرة أن أكون أماً سيئة".
نحن نقبل بأن نقسو على أنفسنا، ونتحمل كل شيءٍ، في مقابل ألا نكون أمهات غير صالحات لتربية أطفالهنّ.
رسالة Amy Koppelman لكل أم
في مقابلة مع كاتبة الرواية Amy Koppelman، صرحت بأنها قامت بكتابة هذه الرواية في محاولة منها لفهم الحزن الذي تشعر به بداخلها، وأنها حينما قرأت ما كتبته، أخافها ذلك، ولكنها أخبرت نفسها بأنّه ربما ما عبّرت عنه في روايتها، لن يعود بإمكانه أن يؤذيها بعد الآن، رغم أنها اكتشفت أنّ بوحها هذا، لم يمحُ كل الألم.
تقول Amy بأنّه برغم أنها هي وزوجها متحابّان فعلاً، إلا أنّ ذلك لم يشفها، لأنها كانت تعاني مرضاً حقيقياً، علاجه لا يكمن في الحب وحده، كما يعتقد الكثير من الناس، فهو مثله مثل مرض السكري ومرض الضغط وغيره من الأمراض التي تحتاج لتدخل طبي حقيقي، وهو المرض الذي لم تُشف منه بالفعل، إلا حينما بدأت في زيارة طبيب نفسي.
أمهات العالم العربي واكتئاب ما بعد الولادة
حينما علمت أنّ اكتئاب ما بعد الولادة يُصيب تقريباً واحدة من بين كل خمس سيدات أنجبن لتوّهن، أدركت أنّ الأمر ليس بسيطاً، لأنّ هذه النسبة هي نسبة السيدات التي صرحّن بأنّهن يُعانين من مشكلة، وفي حاجة للعلاج أو المساعدة، فما بالك بمن اختارت أن تُعاني في صمتٍ، وتتحمل آلاماً شديدة لأنها تشعر بأنّ بوحها هذا سيجعلها في نظر نفسها أماً سيئة، وفي نظر من حولها أماً مُدللة، وليس بإمكانها أن ترعى طفلاً، وبالتالي فهي لا تستحقه.
والشيء الأكثر قسوة، هو أنّ الدراسات تُشير إلى أنّ نسبة إصابة الأمهات في مجتمعاتنا العربية هي نسبة أعلى من ذلك، لأنّ الكثير منّا يجهلون طبيعة هذا المرض الخطير للأسف.
لذلك لا يمكن إرجاع هذه الحالة للضغط الطبيعي على كل أم حديثة الولادة، ولا يمكننا التأكيد على أنّ كل شيءٍ سيعود على ما يرام بعد فترة، فكما يؤثر الاكتئاب العادي على كيمياء المخ ويسبب خللاً في إفراز الهرمونات، يفعل نفس الشيء اكتئاب ما بعد الولادة، ولكن بشكل أكثر عنفاً على المرأة.
نحن نعرف أنّ مرض الاكتئاب يُطلق عليه القاتل الصامت، وقد يكون صاحبه بصحة جيدة وحراً بلا مسؤوليات كبيرة، فما بالك باكتئاب ما بعد الولادة، حيث تكون الأم في أضعف حالاتها النفسية والجسدية، وهي في نفس الوقت مطالبة برعاية كائن صغير له احتياجات نفسية وجسدية أيضاً، ويجب أن تُلبّى في الحال، بلا أي تأخير.
في النهاية.. أتمنى كما تمنت Amy Koppelman بأن يجلب هذا الفيلم بعضاً من النور على سوداوية مرض اكتئاب ما بعد الولادة، لأنه ليس فقط يبعث الحزن والألم في نفوس الأمهات اللاتي يعانين منه، بل هو أيضاً يحرمهنّ من السعادة والشعور بالرضا تجاه أنفسهنّ، وتجاه أطفالهنّ.
أخيراً.. من أجل مساعدة الأمهات على التشخيص المبدئي لاكتئاب ما بعد الولادة، يُمكن لكل أم تشعر بأنها ليست على ما يرام، باستخدام استبيان إدنبره لقياس طبيعة ما تشعر به، وهل هي تحتاج لمساعدة أم لا.
دعوتي لكل الأمهات بأن يشاهدن الفيلم، على الأقل ليعلمن شيئاً واحداً، بأنّهنّ لسن وحدهنّ.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.