الاعتمادية هي أن يتَّكل الإنسان على شيء خارجي لتحقيق استقرار نفسي داخلي سواء مادة أو سلوك أو علاقة، وقد يصل هذا التواكل إلى درجة إدمانية. والإدمان بدوره يتضمن عدة أنواع مختلفة، وهو ما أتناوله في سلسلة المقالات عن "الاعتمادية في العلاقات".
يقول الدكتور أوسم وصفي إن الاعتمادية تشكل على العموم المادة الخام لكل أنواع الإدمان، الذي هو في النهاية محاولة للسيطرة على البيئة الخارجية من أشياء وأشخاص؛ بحثاً عن الاستقرار والتوازن النفسي.
هذا التعريف أصابني بربكة حقيقية؛ كيف يسلك الشخص سلوكاً اعتمادياً محاولةً منه للسيطرة؟ هل تنتهي محاولات السيطرة المتكررة على أشياء أو أحداث أو أشخاص بسلوكيات اعتمادية إدمانية؟
المفاجأة الحقيقية: نعم، يحدث ذلك. وتبدأ القصة مع الشخصية الاعتمادية من الصغر وظروف نشأتها في بيئة مضطربة، من أهم صفاتها الفقر في تقديم القبول، والامتناع شبه التام عن التعبير عن الذات.
فيشعر الطفل الصغير في هذه الأسرة بالخوف والوحدة والجوع الدائم إلى وجود شخص بجانبه يحصل منه على الحب والقبول، فقد نشأ في بيئة تفتقر إلى هذا، ولم يهتم به أيٌّ من المكلفين برعايته، ولا بمشاعره المجروحة أو احتياجاته غير المسددة.
يشعر ذلك الطفل بالإهمال الشديد والعجز، ويبدأ في محاولات مستمرة لخلق نمط أو سلوك يتبناه للتأقلم مع نمط الحياة الذي يعيش فيه، مع عدم وجود أي مهارات تساعده على التعامل.
وفي حالات الاعتمادية المتواطئة مثلاً، التي تطرقت إليها في المقال السابق، يلجأ هذا الطفل الصغير وجدانياً، الضعيف العاجز، إلى أن يقدم خدمات ويساعد مَن حوله، وهذا لا يتلاءم مع صفات المرحلة العمرية من الطفولة، حيث مازال الطفل صغيراً يحتاج الرعاية لا أن يقدمها. ويبدأ في أخذ الدور في حل مشكلات الآخرين ليشعر بقيمته ووجوده؛ وذلك للتحايل على شعوره بعدم القيمة والعجز والوحدة وغيرها من المشاعر التى يجهلها، ولكنه يشعر بوطأتها الشديدة على نفسه.
ومن هنا يبدأ هذا السلوك في سرقة سنوات عمره التي من المفترض أن يتلقى فيها الرعاية، فيضيع في خدمة الآخرين وتلبية رغباتهم، وللأسف يدعم المجتمعُ المحيط هذه السلوكيات بشدة وجهل.
ويبدأ الطفل في تلقي عبارات الثناء والإعجاب على دوره غير المناسب في ذلك الوقت، بل هو مؤشر على وجود مشكلة، (كم هو متفانٍ في مساعدة أهله- هذا الطفل مُطيع- يا ليت كل الأبناء يتمثلون صفاته)، وغيرها من عبارات التشجيع.
هكذا يأخذ ذلك الطفل دعماً على سلوكياته المبكرة في إنكار احتياجاته ومشاعره من أجل خدمة الآخر. المشكلة الحقيقية ليست فى تقديم المساعدة فقط، ولكن الإفراط في السلوك وتناسي وجوده هو ومشاعره واحتياجاته ورغباته وتجاهلها من قِبله ومن المحيطين.
هذا الطفل من خلال المواقف الحياتية تكوَّنَت لديه معتقدات أنني غير مقبول بدون تقديم خدمات للآخرين، ويجب أن أتحمل الكثير والكثير من العلاقات التي لا تحترم مشاعري ورغباتي واحتياجاتي؛ من أجل الحصول على القبول فقط.
ويبدأ الشخص في الاعتماد على تلك السلوكيات والخدمات؛ في محاولة للسيطرة على الآخرين بلا وعي منه، ويضمن وجودهم بجانبه وقبولهم له؛ وذلك للتغلب على مشاعره السلبية، واعتقاده بعدم الاستحقاق للحب والقبول والأمان بلا مقابل، ويعتمد على هذا النمط في التعامل مع الآخرين؛ للوصول إلى حالة "الاتزان النفسي" كما هو في التعريف.
ويصبح ذلك نمطاً حياتياً مصاحباً له طوال عمره، يدفع الثمن من ذاته ونفسه ويتنازل عن احتياجاته؛ من أجل الدعم والونس والدفء وغيرها، مع محاولات متكررة.
وهنا تظهر الخدعة، فهو لا يصل إليه أبداً، فيبدأ في تقديم المزيد والمزيد مهما تغيَّر الأشخاص مِن حوله، ويستبدلهم بآخرين يقدم لهم الخدمات والسلوكيات نفسها متجاهلاً ذاته، ويلقَّب في الوسط المحيط به بـ"الشخص المُضحي".
لذلك فقد صُنفت الاعتمادية مرضاً يجب العلاج منه.
فحين تنظر إلى شخص يتحمل كثيراً من الأذى في علاقة مسيئة أو يتحمل كثيراً من المسؤوليات التي تفوق قدراته وليست من صميم أدواره، لا تتحامل عليه ولا تحكم عليه بأنه يهين ذاته أو لا يحترمها، فنحن مجتمع يجيد الوصم والأحكام بشدة، وآسفةٌ أن أخبركم بأن تلك الأحكام التي نطلقها ليل نهار نابعة من الجهل الشديد؛ بل هو مريض يجب أن يعالَج.
وعلاجه يكمن في أن يتوجه إلى الطبيب النفسي، ليخبره بالتفصيل عن مشكلته، وملامحها، ويوجهه إلى ما يناسبه من حلول، وفقاً له. لكن عموماً، يجب أن لا تستمر بأي حال من الأحوال، في علاقة استنزافية تقوم على العطاء من طرفٍ واحد، وتضحية وتفانٍ في مقابل لا مبالاة، أو حتى قبول مشروط.
ولعلك تتساءل: ما الذي جعل هذا الشخص يتحمل كل هذا الأذى؟ إلى أي مدى تكون هشاشته النفسية التي أعجزته عن الفرار؟ ما الذي يحتاج إليه وجعله يستمر في ذلك النمط السلوكي المؤذي له؟
تفهَّم مشاعره واحتياجاته لعلك تكون الشخص الوحيد الآمن والداعم لشخصيته الحقيقية بدون أن يقدم لك من نفسه. ودُمتم داعمين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.