الحضارة والإنسان والقلق.. كيف تأكلنا “الآلةُ” كل يوم؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/11/06 الساعة 09:29 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/11/06 الساعة 09:29 بتوقيت غرينتش
تمثال "The Thinker" الشهير في ساحة متحف رودين بباريس/ Istock

لماذا لم نعد نبني تلك التماثيل الفنية الطويلة فائقة الجمال في مياديننا؟

لماذا توقف العالم كله عند عجائب الدنيا السبع؟!

لماذا لم نقم ببناء حضارة جديدة؟!

نحن الآن في العام 2021 بعد الميلاد، تطورنا كثيراً كما ترى، ولكن هل نحن نتطور حقاً؟ يمكنك النظر إلى السبعينات من القرن الماضي لترى هذا، يمكنك العودة حتى إلى عصر النهضة لترى هل تطورنا حقاً؟!

الحضارة في مفهومها الصحيح تعبر عن الإنتاج الأدبي والثقافي والمعرفي والفني الذي يترسخ بآثاره القوية في المجتمع، ومن ثم ينعكس على سلوكه وعادته، مكوناً مجموعة من القوانين غير المكتوبة، التي تؤدي إلى أمان أعلى وحرية أعلى ورفاهية أعلى، ومساحات اجتماعية أخرى وفرص عديدة لأبناء المجتمع الواحد.

يمكن لغير المتخصص في علم الاجتماع أن يرى بسهولةٍ أن حياتنا أصبحت أكثر تعقيداً مما كانت عليه، ويمكنه أيضاً أن يرى أننا نتراجع على المستوى الاجتماعي.

تلك المساحات التي صنعتها الحضارة من قبل تتحول إلى بحيرات راكدة تعزلنا في جزر منفصلة عن بعضنا البعض، الجزر التي تظهر جلية في تفاوت الطبقات الاجتماعية، بعيدة جداً، بشكل يوحي لك بأنهم عدة مجتمعات لا تجمعها أي روابط، وليس مجتمعاً واحداً مكوناً من طبقات متفاوتة بشكل منطقي.

ولكن لماذا نحن هنا الآن؟ لقد قمنا بثوره صناعية وتكنولوجية، وخطونا خطوات عظيمه في مجالات مثل الطب والبحث العلمي، وأنشأنا الكثير من المدارس، وخفضنا مستوى الأمية في العالم إلى نحو 14% فقط.

فما الخطأ الذي وقعنا فيه؟ أين نقطة الانهيار التي حدثت في هذا الجبل الضخم من التقدم؟

حسناً دعني أخبرك بهذا الخطأ الصغير.

في النصف الأخير من القرن الثامن عشر بدأت ثورتنا الصناعية الأولى في شكل أبحاث علمية مكثفة، حتى وصلنا في القرن التاسع عشر فنتج عن الأبحاث العلمية أن أحللنا الآلة فجأةً وبشكل سريع محل كل العمل اليدوي، بدأنا ننتج أكثر وأكثر، أكثر بكثير مما يحتاجه أو يتحمله السوق.

دعنا نجلس الآن على أحد المقاهي في لندن، وأنت ترى المباني العالية تستمر في الصعود، وأبخرة المصانع الباهرة تغطي سماء لندن وتحجب عنك الشمس، ثم تنظر فلا تجد سوانا يا صديقي!

سيطرة الآلة أدت إلى القلق، أصبح البشر الباقون في المصانع قلقين على فرصة وجودهم، أصبح الجميع يعمل أكثر وأكثر، وإذا تحركت من هناك وذهبت إلى أمريكا في القرن الحادي والعشرين فسوف تجد أن الجميع يهرول في أنحاء نيويورك، وكأنك في ماراثون كبير يشارك فيه كل من في المدينة، مرتدين البدلات الرسمية ورابطات العنق، الجميع يهرول في كل مكان من أجل العمل.

القلق في رأيي مضاد الحضارة، فالحضارة تبدأ حين ينتهي القلق، ويتوقف الإنسان عن الركض، ويفكر ملياً ثم ينتج فلسفته الخاصة وأدبه الخاص وموسيقاه الخاصة، ولن يحدث كل هذا وهو يهرول ببدلة كاملة ورابطة عنق في الحقيقة.

الطريقة التي نعيش بها في العالم اليوم، والهرولة المتواصلة من أجل تحقيق ما يسمى بالإنجاز الوظيفي، وسيطرة رأس المال على البشر والعمال، أدى كل هذا إلى أننا دوماً نعيش حياه قلوقة، لدينا "قلق السعي نحو المكانة"، قلق من قدرتنا على العيش بشكل سوي، قلق من قدرتنا على تحمل كل هذا، قلق من نتيجة أفعالنا، قلق على أطفالنا وطريقة تربيتهم، قلق على درجة أمننا الاجتماعي في أي مكان كنا، قلق وقلق فوق قلق.

مع استمرار كل هذا القلق للأسف سنهدم كل يوم ما تبقى من حضارتنا وإنسانيتنا، سنهدم ولن نتمكن من البناء أبداً.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

فتحي محمد
كاتب مصري مهتم بالسياسة والاجتماع
تحميل المزيد