لديَّ صديق عزيز جداً، طيب وخلوق، قريب عند الشدائد، هذا الصديق لديه لازمة لفظية دائماً ما تكون حاضرة عند حديثنا -وفي بعض الأحيان تكون السبب لحديثنا- وهي مقولة "اكعد واسكت". أصبحت هذه اللازمة ما يذكّرني بهذا الصديق؛ لكثرة ما سمعتها منه.
وهذه الـ"اكعد واسكت" كلمتان خفيفتان على اللسان شديدتان في التثبيط. تتباين ردود فعلي لها ما بين الضغط أكثر ومحاولة إقناع المتلقي بأهمية أن لا تكعد وتسكت، أو محاولتي تشتيت ذهني للحفاظ على خلايا الدماغ من تسجيل كلام مستهلك وغير مفيد.
وصديقي هذا ليس الوحيد الذي يعاني من هذه اللازمة؛ بل إنني سمعتها من كثير من أصدقائي الآخرين، ومن أهلي، ومن إخوتي، ومن خالاتي.. وكثير من المعارف والغرباء. وأجزم بأنكم سمعتم هذه الـ"اكعد واسكت" كثيراً مثلي، من أصدقائكم وأهلكم وأقربائكم وغربائكم. ويبدو لي أنها إحدى القواعد التي تربينا عليها، وقد يعتبرها كثيرون من الفضائل.
تستدعي متلازمة الـ"اكعد واسكت" ألّا يكون للفرد رأي قوي وواضح في كثير من الأمور. كما يحرص المؤمنون بها على عدم إظهار رغبات خارجة عن المألوف وعما يفضله الآخرون، أن يكونوا قنوعين، راضين بما لديهم، لأنه يجب أن يكونوا ممتنين، لأنهم حصلوا على ما لديهم وأن يستكثروا على أنفسهم حقوقهم.
على سبيل المثال، عليهم ألا يبحثوا عن وظيفة فيها بعض المخاطرة، ألا يبدأوا عملهم الخاص، ألا يهاجروا لبلدان أخرى، عليهم بين حين وآخر أن يقبلوا بقليل من الظلم بحقهم وحق الآخرين من حولهم، خصوصاً إذا كنّ نساء أو زوجات أو كانوا أقليات أو أبناء وبنات لآباء متعسفين.. وهكذا تصبح الأمور "رواق" كما يقول اللبنانيون.
وعلى المستوى الوطني والعالمي فإن هذه الفضيلة تستدعي أن تلزم منزلك وتراقب العالم الخارجي يحترق وأنت غير مبالٍ، أن تغض النظر عن بعض الأخطاء، لأن مصالحك البسيطة أهم من هذه المبادئ، أن ترى بلدك أو محيطك يتغير ويتخبط ويعمر ويدمر بينما أنت "كاعد وساكت". فليست الـ"اكعد واسكت" بإخفاء الآراء فقط، ولكن الأفعال كذلك.
ويتبع كثير من المهاجرين هذه الفضيلة، ويعانون خصوصاً عند هجرتهم لبلدان تعيش بمبادئ مغايرة لمبادئ مجتمعاتهم، مثل الفردية والتعبير عن الذات والسعي للتصحيح وإنكار الخطأ. وفي حالة الديسابورا العراقية، فإن كثيراً من المهاجرين أو المُهجَّرين العراقيين -في الخارج وفي الداخل- اليوم يجدون أنفسهم يختبرون هذه الفضيلة يومياً.
ويخيَّل لي أن من أكثر ما يمكن أن يولّد هذه الـ"اكعد واسكت"، إحدى النقاط التالية:
1. الخوف من اتخاذ المخاطر ودفعها وعدم الولوج فيها، مع أن هذا الخوف مبرر في بعض الأحيان لحماية النفس والآخرين.
2. الخوف من تغيير الوضع الحالي أو كما نقول في العراق: "شين التعرفه أحسن من زين الماتعرفه".
3. التخوف من تسليط الأضواء على الفرد والخروج عن أفكار الجماعة.
4. الخوف من الاشتراك في أنشطة وأفكار قد لا نكون الموجّه أو القائد فيها، وبمصطلح آخر: الغيرة من الآخرين.
5. عدم تعاطفنا مع الآخرين، خصوصاً عندما يكونون مختلفين عنا.
6. استسهال نقد الآخرين واستصعاب القيام بالعمل.
7. قصر النظر والتركيز في التفاصيل، وفقدان التفكير بعيد المدى والتفكير الشمولي.
وكما يعلم القارئ الكريم، فإننا نعاني من أزمة قيادة في الوطن العربي والمجتمعات والجاليات العربية، وقد تكون أزمة القيادة في العراق من أكثرها.
ولا أقصد القيادة على المستويَين السياسي والمهني فقط، ولكن على جميع الأصعدة، وقد نتج هذا من توالي عقود من حكم القائد الأوحد واتباع الحزب الواحد، مما حرم الأفراد من القيادة إلا لمن كان مقرباً من السلطة.
كما أن أزمة القيادة تتولد من عدم التركيز بصورة فعالة وهادفة على بناء القادة وتطويرهم، وقد يظن البعض أن القادة وليدو الصدفة والوراثة، ولكن هذا غير صحيح. بما أننا كعراقيين ننحدر من بلد لا يستثمر الكثير في بناء القادة، فيتعين علينا فعل ذلك بأنفسنا.
إذا أردنا بناء وطن مدني يجاري المجتمعات المتحضرة إقليمياً وعالمياً، فإننا نحتاج لتضافر جميع الجهود وإبداء رأينا بالقضايا المصيرية والعمل على تغيير واقعنا. وهذا يعني أننا جميعاً لدينا الفرصة للقيادة، وليس هناك داعٍ للتنافس في قيادة هدف دون آخر.
في كلٍّ منا قائد صغير، وهذا القائد سيكبر بالدعم والتوجيه والتدريب. ولكن من أهم صفات هذا القائد أن يكون مشاركاً وشجاعاً في مواقفه، وألّا تكون الـ"اكعد واسكت" ضمن قاموس كلماته. وهذه دعوة لكل من يهمه الأمر، إلى اتخاذ خطوات جدية للتصحيح.
ولنبدأ بمعرفة الذات واكتشاف أننا كنا من مُتَّبعي الـ"اكعد واسكت". هل تجد نفسك تردد هذه اللازمة كثيراً؟ هل تقوم أحياناً بمعارضة الآخرين عند إبدائهم آراء قد تبدو جريئة، بدون سبب مقنع؟ كمثال على ذلك، هل قلت يوماً لشخص ألّا يشارك في تظاهرة لأن هذه التظاهرة ليست مهمة لك، أو حاولت إقناعه بعدم جدوى تركه وظيفة حكومية أو خاصة لتحسين مستواه؟ إذا اكتشفت أنك قمت بكل هذا، فقد اكتشفت فرصة للتطوير.. ومن هنا تستطيع البدء بالتغيير.
إن كانت لغة هذا المقال تشبه لغات كثير من المقالات التي قرأناها عادةً، فأنا أستميحكم عذراً، ليس هذا القصد. إذ إننا نشأنا على كثير من الخطابات الرنانة ومعها تناولنا الـ"اكعد واسكت" على أطراف كل خطاب. ولكن لدينا جميعاً الفرصة لتغيير هذه الـ"اكعد واسكت"، وهذه دعوة صادقة لنقوم بذلك جميعاً، وأملي أن نتوقف جميعاً عن استخدام هاتين الكلمتين نهائياً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.