منذ أن عرفت البشرية الحضارة وربما من قبل، يحاول البشر أن يجدوا تعريفاً واضحاً حول ما هو الحب، تلك التعويذة التي أُجهد المفكرون على مر العصور في فهم طلاسمها، فكتب فيه الشعر والروايات وغنى به الناس وشاهدناه على شاشات التلفاز، ولكن بالرغم من كل هذا لم يوجد تعريف واحد شامل جامع للحب.. هل هو رغبة أم احتياج، أو ربما تفاعل فيسيولوجي نسعى للشعور به، أم هو مزيج من كل هذه الأشياء؟
هناك أسطورة إغريقية تقول إن الآلهة قد خلقت الإنسان نوعاً واحداً في بداية الأمر، ونظراً لكثرة أفعاله السيئة على الأرض، فقررت أن تعاقبه وتقسمه إلى نصفين ذكر وأنثى، ليعيش كل نصف طوال حياته في البحث عن نصفه الآخر.
وربما جاءت هذه الحكاية دليلاً على سعي البشر وراء الحُب، والوقوع تحت وطأته كمحاولة للنجاة ويعود كل طرف إلى مكانه الصحيح.
تسارعَ البشر حول الحبّ، تطابقت بعض أفكارهم واختلفت حوله وفقاً لخساراتهم وانتصاراتهم في حروبهم معه.
تشير الدراسات إلى أن هرمون الحب هو ناقل عصبي يعرف باسم الأوكسيتوسين (Oxytocin)، وهو يرتبط بالعديد من المشاعر والحالات التي يمر بها الجسم، ويؤثر بشكل كبير على مشاعر الإنسان وعلى بناء العلاقات البشرية، وهناك مواقف كثيرة يتم من خلالها إفراز خليط من الهرمونات العصبية التي يشعر من خلالها الإنسان أنه يحب.
فإذا تعاملنا مع الحبّ من الناحية الفسيولوجية المجردة من المشاعر سنجد أنه مزيج من هرمونات ثلاثة هي: الدوبامين، والسيروتونين، والأوكسيتوسين، ويطلق على هذه الهرمونات الثلاثة مصطلح هرمونات السعادة.
تحدث هذه المعادلة عندما يشعر الشخص بانجذاب لشخص آخر فتزداد مستويات هذه الهرمونات في الجسم، مما يخلق تأثيراً يجعل هذا الشخص يشعر بمشاعر إيجابية مختلفة ومختلطة، وهنا تلعب مشاعر البشر الدور الأكبر في الإحساس بما يسمى الحب.
إننا نصبغ هذه المعادلة بصبغة المعاني التي توارثناها نحن بني آدم على مرّ التاريخ لنطلق عليه مصطلح الحب، كما تشير بعض الدراسات إلى أن المنطقة المسؤولة في مخ الإنسان عن شعور إحساس الكره تجاه شخص هي نفسها المنطقة المسؤولة عن إنتاج إفرازات الشعور بالحب، لذلك البشر لا يحبون وإنما يصورون ويصبغون المعاني وفقاً للصورة التي يحتاجون إلى تعريفها.
لذلك يبقى السؤال عالقاً:
هل هناك حب حقيقي؟
يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش: "الحب هو كذبتنا الصادقة".
كما يقول الروائي الأمريكي كيرت فونيغت: "يسمح لك بالوقوع في الحب ثلاث مرات في حياتك"، يفسر سبب هذا التحديد حديثه مع أبيه قائلاً: وجدت أبي ذات مرة في مزاج يسمح له بالإجابة عن أسئلتي، فقلت له: كم مرة وقعت في الحب؟ كانت ردة فعله سريعة، رفع ثلاثة أصابع في وجهي، ولم يتحدث.. لاحقاً، أحسست بالارتياح حين عرفت أن والدتي كانت واحدة من النساء الثلاث اللواتي أحبهن.. الطريقة التي كان يشرح بها أبي مزايا وإخفاقات كل حب مر به لفتت نظري وأقنعتني تماماً، وسواء كانت أمي قد أحبته بما يكفي أم لا، هذا لن يغير شيئاً، لأنه كان يشعر باختفاء الحب، وقد صدّقته.
ويشير الكاتب مصطفى محمود إلى أن الحُب هو شعور فانٍ، موضحاً: "نفنى في الحب.. والأشخاص الذين نفنى فيهم زائلون فانون بطبيعتهم، وهذا أمر مضحك، ولكنه لا يضحكنا.. وإنما يبكينا ويعذبنا لأن غرضنا يلتبس علينا، فنحب الأشخاص.. على حين أننا في الحقيقة نحب المعاني التي تصورناها في هؤلاء الأشخاص".
لذا -في رأيي- لا شيء يسمى حباً لمجرد الحُب؛ فنحن فقط نحب المعاني التي تصورنها في هؤلاء الأشخاص، كما أشار مصطفى محمود.
لذلك نتلذذ بلوعة الحب وآلام الاشتياق، نفنى فيه كلما أصبح بعيداً عن متناول أيدينا، فنزداد شوقاً وحنيناً، وبمجرد أن نحصل عليه يختفي الحب، وتخمد براكين اللهفة، وتندثر نار الأشواق، وتبهت المعاني الخالدة في حضورهم، ومن ثَمَّ لا يوجد ما كنا نظن أنه بلا منتهى.
إنه الوهم.. فالنفس البشرية تُجيد صناعة الوهم لها، فإنه طريقها لتنسجم به مع هذا العالم، فالحل الوحيد هو أن تصبح سيد هذه الأوهام، أن تصنعها بيدك. نصنع الوهم لأرواحنا لأننا نخشى الحقيقة.
وبالرغم من كل هذا سيبقى الحب هو اللذة التي يسعى إليها جميع البشر تحت أي مسمى، ومهما كلفهم الأمر، لأننا لا ندري ما حقيقته، ولا أظن أننا سنصل في يوم ما إلى تعريف دقيق له، سيبقى دائماً هكذا.
فما هو الحب؟
قال لي صديقي: "اتنين ما يستغنوش عن بعض".
وأخبرتني إِحدَاهُن: "المُستحيل الذي أصبح ممكناً".
وتقول الصوفية: "أن تُبصر نور الحبيب في قلبك".
وعند ديستوفيسكي: "الجحيم ألّا أكون قادراً على الحب".
وشاهدت بطل أحد الأفلام يقول إنه "السعادة والحزن ممزوجان معاً في كأس واحدة".
وفي أحد الكُتب كان هناك سطرٌ مكتوب: "هو ذلك الضباب الذي يتلاشى عند طلوع نهار الواقع".
ويقول لي ابن أختي هو "حضن أمي".
وأبي يشير إلى أنه "النظرة في أعيننا".
وحدثتني من أحبتني ذات يوم "أنهُ أنت".
ونظر إليَّ من يجالسني في الحانةِ وهو يقول: "أن ترى خيالاً من الحبيب في الكأس".
أمّا أنا..
فالحُب هو ألّا أؤذَى في قلبي بِمَن أحب.
إننا ندرك حجم ضعفنا ومساحة الاحتياج التي نريد ملئها، لذلك نخلق لأرواحنا أفعالاً تشعرنا بأننا ما زلنا على قيد الحياة، ليبقى السؤال عالقاً في ذهني: هل نحن نحب أم نريد تحقيق كل المعاني التي توارثناها عن أسلافنا ونحاول تحقيقه وتمثيله في واقعنا وكأنها الدستور الذي نحاول تنفيذه؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.