كانت وفاة أبي -رحمه الله- من أكثر التجارب المؤثرة في حياتي وعلامة فارقة فيها. كانت وفاته خبراً نزل كالصاعقة علينا جميعاً؛ لم نتوقع أبداً أن يرحل عنا رحيلاً مفاجئاً. لاحقتني الكوابيس لعدة ليالٍ. اختبرت العديد من الأحاسيس أولها كان الإنكار، تلاه الغضب، ثم إلقاء اللوم على أفراد من عائلتي، ثم اعتراني حزن عميق.
لمدة شهرين ونصف لم أستطع الرجوع إلى عملي، إذ ما قيمة العمل وكل ما هو مادي إن لم نستمتع بالقرب من أحبابنا؟ دخلت حالة من الصراع النفسي لا أعرف هل كان سببه وفاة أبي أم كانت الوفاة هي القطرة التي أفاضت الكأس؟ أحسست لمدة طويلة وكأن توازني قد اختل. شعرت وكأني كنت في غيبوبة واستيقظت منها فجأة، فجلست مثل المتفرجة البلهاء على مسرح الحياة أشاهد بلا حول ولا قوة تساقط الكثير من الأشياء مني تماماً مثلما تتساقط أوراق الخريف.
أصبح الصمت رفيقي المفضل أحتضنه وأكتم حزني. هل كان هذا استسلاماً؟ لا، فأنا لم أكن يوماً من المستسلمين. إحساس غريب راودني وقتها وكأنني مجرد ذرة صغيرة في هذا الكون العظيم، ولست كياناً منفصلاً كما كنت أعتقد. لم أقاوم ما يحدث لي، ولمَ أقاوم؟!
تلفتُّ حولي فرأيت أن الشجرة لا تقاوم سقوط أوراقها، والسُّحب لا تقاوم تيار الرياح، والبحر لا يقاوم مده وجزره، والثعبان لا يقاوم تبديل جلده، نعم بالضبط هذا ما كان يحدث لي، كنت كمن ينزع ثوباً ما عاد ينفعني في شيء. كان هذا هو إحساسي، إحساس من يبدل جلده. كانت مرحلة مؤلمة امتدت لعدة أشهر أحسست فيها بالضياع وعدم فهم أي شيء وكأني أعاود اكتشاف كل شيء من جديد.
ثم بدأت أرى الحياة بنظرة مختلفة، أقدر قيمتها، قيمة أن أحيا حياة حقيقية وأستمتع بكل لحظة فيها. علمتني وفاة أبي أن نهايتنا واحدة، فلمَ الخوف من المستقبل؟ قررت أن أصبح أكثر تصالحاً وصدقاً مع نفسي، فالحياة أقصر من أن نمضيها في العيش أو التعايش مع أشياء لسنا مقتنعين بها أو أن نمضيها في لوم أنفسنا على أشياء فعلناها أو لم نفعلها.
تعلمت تقدير الأشياء الحقيقية وتقدير وجود أشخاص حقيقيين حولي، تكون محبتهم حقيقية وصافية، أما دون ذلك فهو زيف لم أعد بحاجة إليه. أن تحيا حياة حقيقية يعني أن تغوص في أعماقك وتستمع إلى صوتك الداخلي.. إلى قلبك، أن تتبع حدسك وتكون على فطرتك، أن تنأى بنفسك عن المصفوفة وأنت ضمنها.
ولأنني لمست بنفسي أن الحياة فعلاً قصيرة أصبحت لا أرضى بما هو أقل من كل ما هو حقيقي، فتجرأت على الشك في الكثير من الأشياء التي لم أكن أجرأ قبلاً على الشك فيها وأصبح الجميع سواسية فتصنيف البشر على أساس ديني أو عرقي أو أي اختلاف آخر أو الحكم عليهم لم تعد نفسي تستسيغه، بل الأمر العجيب الذي لم أتوقعه أنني أصبحت أشفق على الظالمين والأنانيين والمغرورين وأراهم أرواحاً ضائعة وغافلة تستوجب الترفق.
إنها رقة عجيبة استشعرت انسيابها في داخلي وكم كان ذلك ممتعاً! إنه إحساس عظيم بالحب يتدفق مني وأرى أنه يغمر كل شيء حولي.
ثم اختفت فجأة كل الفوارق فلم أعد أرى انفصالاً بين الخير والشر، النهار والليل، النور والظلام، الطيب والخبيث، الجميل والقبيح؛ الليل هو الوجه الآخر للنهار، ولو لم يكن هناك شر لما عرفنا الخير، وكل ضدين هما وجهان لعملة واحدة، وأنا هو أنت مهما كنت مختلفاً، كلنا في الحقيقة واحد.
هذا هو جوهر الحياة؛ أن يحيا الإنسان حياة حقيقية، كما تريدها فطرته وليس مثلما يريده الآخرون. عندما أدركت هذه الحقيقة وسلمت بها، عندها فقط بدأ السكون يتسلل إلى نفسي التي أتعبتها معي زمناً طويلاً دون قصد مني.
رحم الله أبي..
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.