اتفقت مع والدتي ليلة الأمس على الذهاب إلى شركة المياه لدفع بعض الرسوم المتعلقة بشقة جدي- رحمه الله- حتى لا تتراكم الرسوم بسبب عدم وجود من يسكنها، ولكنني لم أكن على دراية كاملة بحجم ما سيحدث.
كانت البداية أمام باب المصلحة، عندما وجدت ما يقرب من مئة دراجة نارية مصطفّة أمام الباب، أول ما خطر ببالي أنها من المؤكد دراجات مشاركة في زفاف أحد الأفراح الشعبية، ثم تذكرت أننا مازلنا في التاسعة صباحاً.
أهملت المشهد ودخلت، فوجدت صفوفاً عشوائية متشابكة من الرجال العجائز والنساء ربات المنازل، يتبادلون اللوم على أدوارهم في الصف، فقمت بالوقوف بشيء من النظام في صمت آخر الصف، منتظراً دوري البعيد. ها قد اقتربت أخيراً، ولكن عند اقترابي وجدت أحد المصطفين أمامي يسألني في دهشة: "أنت ماجبتش ورقة من عند مدام اعتماد؟"
فلم أملك سوى رد استفهامه باستفهام آخر: "مين مدام اعتماد؟"
ثم وجدت ضحكة ساخرة سخيفة يليها استفهام آخر: "أنت أول مرة تيجي هنا ولا إيه؟ مدام اعتماد في البدروم، لازم تجيب من عندها ورقة علشان تدفع".
كانت تلك أسخف حقيقة سمعتها بحياتي
خرجت من الصف الذي وصلت فيه إلى أوله، ونظرت خلفي لأجد عدداً مضاعفاً عما رأيته عند مجيئي، لم أكترث كثيراً ونزلت إلى البدروم بحثاً عن "مدام اعتماد؟".
وأنا أتلفت حولي بحثاً عنها وجدت ضحكة أسخف من تلك التي قابلتها في الأعلى، مُصطحَبة بصوت رخيم: "بتدور على مدام اعتماد؟ أهي قدامك أهي".
حاولت الوصول بنظري إليها، ولكنني لم أتمكن من ذلك، فاقتربت أكثر لأجد أمامي صفاً آخر من الرجال والنساء المتصارعين على أحقية المكان الأول، ومثل أول مرة وقفت آخر الصف في صمت شديد حتى تنتهي تلك الصراعات وأصل أنا في سلام.
ها قد وصلت أخيراً إلى المرأة المرعبة مدام اعتماد، طلبت منها ورقة الدفع فطلبت مني الورقة المطبوعة التي تُترك عند أعتاب الشقق غير المسكونة بنظرة مليئة بالتحدي!
مثّلت لها أنني مصدوم، ثم فاجأتها بتلك الورقة الصغيرة من جيبي بضحكة سخيفة بقدر ما تعلمته في ذلك المكان المشؤوم، وأخيراً ها قد حصلت على ورقة الدفع المكتوبة بخط يد مدام اعتماد.
وقفت لوهلة أقارن الورقة الجديدة بتلك التي كانت معي، لم أجد سوى أن مدام اعتماد نقلتها بخط يدها، فوقفت أتأمل كثيراً هل نقل الأوراق بخط اليد هي وظيفة مدام اعتماد التي تحصل في مقابلها على راتب؟ لماذا لا يجعلون الدفع بالورقة المطبوعة مباشرة؟ هل خط مدام اعتماد به تعويذة سرية لا تفتح الخزينة إلا عندما تراه؟
عُدت من حيث أتيت ثانية لأجد صفاً يمتد إلى خارج المصلحة بجانب تلك الدراجات العجيبة التي رأيتها في بداية رحلتي، وبعد نحو ساعةٍ من الانتظار وصلت أخيراً إلى الخزينة ومعي ورقة مدام اعتماد السحرية، المطلوب دفعه كان مبلغاً +50 قرشاً.
لم يكن معي 50 قرشاً، فاصطدمت أذني بأسخف شيء سمعته: "الـ50 قرش قبل الفلوس كلها يا باشا".
فأعطيته 5 جنيهات وحاولت الوصول إلى المستوى ذاته من السخافة، وقلت له: "كده أنا مداين الحكومة بـ4,5".
ثم قمت بالفرار سريعاً من تلك الفجوة الحضارية التي اقتحمتها، أو ربما بمعنى أدق التي اقتحمتني، لأتذكر بمجرد خروجي أنني كنت أنوي إنجاز تلك المهمة في 15 دقيقة حتى ألحق بمحاضرتي في التاسعة وثلاثين دقيقة.
لأعود إلى منزلي وأنا لا أعلم هل المفترض أن أفرح لأنني هربت من محاضرة لا أحبها، أم أحزن لأنني جئت إلى هذا المكان! ولكن كان الشعور المؤكد بداخلي هو الإيمان الشديد بضرورة انتشار النظم المميكنة في المعاملات الحكومية بأسرع وقت ممكن.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.