المشاعر الإنسانية من أعقد الأشياء على هذه الأرض، بالرغم من الأبحاث والدراسات اليومية حول طريقة الدماغ والعقل وطرق التفكير والتفاعلات الجسدية التي تؤثر على قراراتنا، فإن كل تلك المباحث لا تزال غير كافية لتحديد مدى تأثير المشاعر على قراراتنا اليومية التي تخص الجوانب العملية الخاصة بحياتنا، ناهيك عن التعقيدات البالغة في علاقتنا الإنسانية التي تربطنا بمن هم حولنا.
يناقش الفيلسوف البريطاني آلان دو بوتون مشكلة أكثر شعور إنساني مؤرق وهو الشعور بالقلق. دو بوتون كاتب وفيلسوف بريطاني، وُلد في 20 ديسمبر/كانون الأول 1969، في سويسرا لأبوين بريطانيين. يناقش في كتابه "قلق السعي إلى المكانة"، الصادر في نسخته العربية عن دار "التنوير" بلبنان في طبعته العربية الأولى المترجمة بقلم "محمد عبدالنبي"، يناقش الكتاب التاريخ الطويل لقلق الأشخاص على مكانتهم في مجتمعاتهم الخاصة بشكل عام وفي محيط أسرهم ومعارفهم بشكل خاص.
قلق السعي إلى المكانة
يستعرض "قلق السعي إلى المكانة" في "310" صفحات التاريخ الطويل لشعور وحرص الأفراد على مكانتهم في المجتمع. وحده الشعور بالقلق الأكثر شيوعاً -على مر العصور- والمشترك الأكبر بين الناس باختلاف توجهاتهم السياسية والفكرية والدينية وباختلاف مكانتهم الاجتماعية. يسرد "قلق السعي إلى المكانة" الأسباب الكاملة من وجهة نظره في "100" صفحة مستعرضاً افتقار المرء للحب وتعامله مع ذوي النفوس المعقدة "المتغطرسين" وتطلعه لبلوغ مكانة مادية أفضل للارتقاء في درجات السلم الاجتماعي عن طريق العمل وتطوير المهارات وتغيير طرق التفكير التي لا تتسم بالنهم الشديد تجاه تكديس الأموال وتكريس الحياة لصنع جنة دنيوية. بالإضافة لعرض تاريخي لمفهوم الكفاءة المرتبط بتقييم الناس لذوي الثروات أو الأشخاص أصحاب المقامات العالية في المجتمع بناءً على ثرواتهم.
في نهاية الجزء الأول يسرد "قلق السعي إلى المكانة" التاريخ الطويل والمضطرب لكل من اعتمدوا في حياتهم على أشخاصٍ آخرين كي يعدّلوا أوضاعهم الاجتماعية سواء كانوا أولئك الأشخاص هم أرباب العمل أو الأصدقاء ذوي المكانة العالية أو حتى اعتمادهم على الألقاب التي تم منحها لهم عن طريق نسب الأشراف أو الإرث.
ربما يكون الخوف وحده هو جذر المشكلة، لأن الواثقين في قيمتهم الذاتية لن يتسلّوا بتحقير الآخرين. وراء الاختيال والغرور يكمن ذعرٌ مُقيم، فحينما ننقل لبعض الناس الشعور بأنهم غير أكفاء لنا، يأتي القَصَاصُ اللازم بشعورنا بالدونية إزاء أشخاصٍ آخرين.
هل مكانتنا الحقيقية ما يمنحه الآخرون لنا؟
تعتمد المكانة بحسب ما ورد في "قلق السعي إلى المكانة" على قصتين تاريخيتين أساسيتين؛ القصة الأولى مردّها للعصر ما قبل الحديث وتتناول قيمة الفقراء في المجتمع بوصفهم الأشد نفعاً والأكثر تأثيراً، فبدونهم لا يمكن قيام المجتمع المرفوع على أعمدة رجال الدين والنبلاء وطبقة العمال الفقراء الذين تم إقناعهم بحقيقة أن إرادة الله وحدها هي ما جعلتهم فقراء وبؤساء وأن التذمر على هذا الوضع كُفر بالله. كان من السهل على رجال الدين ترويج تلك الأفكار وترسيخها في وجدان العامة باستخدام النصوص الدينية التي لا يتسنى للفقراء فهمها. ولتلك القصة مكانة أخرى وهي أن المكانة في الدنيا مهما علت فلا قيمة لها أمام ما قد يحصل المرء عليه في السماء كمكافأة على تحمله الشقاء الدنيوي. دُعمت تلك الرؤية بنصوص الإنجيل التي تتحدث عن قيمة الحياة الآخرة وتفاهة الحياة الدنيوية. وبمقارنة مهنة المسيح الدنيوية كنجار مع قيمته الدينية كـ"ابن الله" المخلص والمرسل من السماء تترسخ المكانة الدنيوية في أذهان الفقراء كمسألة تافهة لا تستحق كل العناء. يأتي الركن الثالث في تلك القصة ليقتل أي موضع شك وينبذ أي قلق نحو مكانة المرء في الحياة الدنيا ولكي يقتل أي مشاعر ناحية الأغنياء بالحسد، فالأغنياء لصوص الفقراء. جاء ذلك التصور ليكون أكبر عزاء للطبقة العاملة الكبيرة في المجتمع الغربي فيما قبل العصور الوسطى. ورغم ذلك فإن مكانة الفقراء في المجتمع في هذا الوقت كانت قائمة على تقديرهم اللافت من النبلاء والاهتمام والحرص من قبل رجال الدين وهو ما ساهم في خمول أي مشاعر ثورية أو نمو الكراهية بين طبقات المجتمع.
تكتمل الصورة الذهنية بشكل كبير عندما يتم رصد كل تلك الأحداث والآراء ووجهات النظر التي دعمتها النصوص الدينية ورجال الدين وذوو السلطة والنفوذ، رواية واحدة ظلت راسخة في الأذهان بلا أي تطور تقريباً فيما عدا عدة أحداث قد لا يتم رويها، ولكن تلك الرواية تم تقويضها فيما بعد وحل محلها رواية جديدة بثلاث ركائز أساسية أخرى منافية تماماً للرواية الأولى، وهي التي نعيشها في الوقت الحالي تحت وطأة الرأسمالية الطاحنة.
ثلاث قصص مغايرة
بحسب آلان دو بوتون في "قلق السعي إلى المكانة" فإن قلق المكانة لم يكن محسوساً تقريباً على مدار قرونٍ طويلة بسبب الرواية السابقة التي جعلت المكانة الدنيوية شيئاً بلا قيمة مقارنة بالحياة الآخرة. ولكن بطبيعة الحال فإن أي نظام بشري مهما بدا صارماً ومُحكماً يبقى قابلاً للتعديل والتغيير والتحريف، وقد تتحول كل مزاياه إلى عيوب تستدعي تغييرها باسم الحياة الأفضل. في منتصف القرن 18 بدأت محاولات نقد التأويلات التي ترتكز على النصوص الدينية باعتبارها وجهات نظر بشرية قابلة للنقد، وصار إلزامياً تحويل دفة الخطابات التي تتهم الأثرياء بالفساد بشكل كامل إلى مدحهم وتغيير نظرة الفقراء لهم لتتحول القصة بشكل كامل من فساد الأغنياء وصلاح الفقراء إلى إعلاء قيمة الأغنياء والثناء على ما يفعلونه للنهوض بالمجتمع المليء بفقراء كسالى بلا أي قيمة!
في كتابه "حكاية النحل" يطرح الطبيب اللندني "برنارد ماندفيل" رؤيته تلك سارداً ومُعدداً مزايا الأثرياء وقيمتهم الكبيرة في المجتمع والتي تساهم في إعالة الفقراء الذين لولا ترف وسخاء الأثرياء لأصبحوا متكدسين في القبور. وحينما بدأت الأصوات تتعالى في احتجاجات على مبادئ توريث الألقاب والممتلكات صار كل فرد في المجتمع منوطاً بسلك الاتجاه المناسب، ومن ثم صارت مكانة الفرد تعتمد اعتماداً كُلياً على جدارته بعدما تم إلغاء كل أنظمة التوريث وصار كل الأشخاص بلا ألقاب. هذه النظرية استندت في ظاهرها على إعلاء قيمة المساواة والعدل، ولكن في باطنها وضعت من هم غير مؤهلين لأي شيء في مواجهة المتعلمين الذين لم يجردهم إلغاء التوريث أي ميزة قد حازوا عليها بالإضافة لعدم وجود إمكانية كبرى لإرساء قواعد المساواة على الجميع ومن ثم نجح من هم قادرون على التلاعب بالقيم أو بالسلطة في ارتقاء درجات عُليا على السلم الاجتماعي الجديد. وفيما بعد حينما تم ترسيخ القواعد الجديدة للمجتمع القائم على الكفاءة والموهبة صار ممكناً طرح قصة جديدة ملخصها أن فقر الفقراء سببه غباؤهم.
يُلخص "آلان دو بوتون" قلقنا نحو مكانتنا بقوله:
مهما كان القلق بشأن المكانة مزعجاً، فمن الصعب أن نتخيل حياةً تخلو منه تماماً، ذلك لأن الخوف من الفشل ومن الخزي في أعين الآخرين عاقبة لا بدّ منها لامتلاك الطموحات.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.