فوضى، الكثير من الفوضى حولي وفي رأسي، أشعر أنّ العالم بأكمله يركض ورائي يريدني أن أنهي مهامي، لا أكاد أكمل مهمةً حتى أصلها بالأخرى، أكملتُ خطّتي الأسبوعية في ثلاثة أيامٍ لكن لم أشعر بأنّي فعلتُ شيئاً يذكر، ولم أشعر بالسعادة أو الرضا، كلّ ما كنتُ أعيه هو وضع رأسي على الوسادة لثلاث مرات وحمله عنها، ثم أدخل في دوامةٍ أو سباق عدوٍ ماراثوني لإكمال اليوم.
أُحدّث صديقي فتنتابني رغبةٌ باجتثاث الحروف من فمه لأعرف نهاية القصة سريعاً. لم أعد أسمع الفاصل الأزيزي بين نوتات صرصار الحديقة، أصبح أزيزه متصلاً لا فواصل فيه، كما أنّي لم أبدّل ملابسي لعدّة أيام ليس لأنّه ليس لدي غيرها أو أنني أخشى الغرق في الاختيارات، بل لأنني لا أكاد أبدأ التفكير في الملابس حتى أتذكّر أنّ لدي ما هو أهم لأقوم به، كأنَّ أحدهم ضغط زر تسريع الكون لـ1.5x على الأقل أو كأنَّ الكون يركض داخلي.
أصابني نوع من هوس إكمال المهام، لم أكن أصدِّق أنّي لن أشعر بالمتعة بعد إكمال الجزء الرابع من فيلم "قراصنة الكاريبي" مع أنني انتشيت سعادةً بعد إكمال أجزائه الثلاث، حتى إن عدد الأحلام التي رأيتها عن تلك السلسة تكفي إيصالها للجزء العشرين. ولم أشعر بالوحدة أو الخوف والجلوس في زاوية الغرفة والتفكر في بشاعة الإنسان، بعد إكمال رواية "الساعة الخامسة والعشرون". كلّ ما فعلته هو الانتقال لمهمةٍ أخرى دون إعطاء نفسي المهلة لأشعر بشيء أو مراجعة ما فعلته.
قيل لأحدِ الحكماء لو بقي لك أسبوع على موتك ماذا ستفعل به؟
أجاب سأظلّ جالساً مكاني
عند النظر من زاوية إنسانٍ طبيعي سيرى إجابته محض سفسطة ومثالية فارغة. لكن من زاوية إنسانٍ غرق في هوس إنجاز المهمات وبعد إنهائها لم يشعر بالسعادة، بل الحنق على فعلته سيرى إجابته غايةً في الحكمة. لا أستطيع تخيل أن لدي أسبوعاً واحداً فقط لأفعل كلّ ما أريد فعله، حتى لو اخترت من بينها مهمة واحدة أو اثنتين، لن أحفل بإكمالهما حتى يقترح عليّ طمعي مهمةً ثالثة. هكذا تتصل نهاية الأولى ببداية الثانية بالثالثة بالرابعة حتى تشكّل حلقةً أدور بها دون توقّف، وبعد انتهاء الأسبوع أشعر بالكثير من الدوران ثمّ تُقبض نفسي وأموت ولن أشعر أنّي فعلتُ شيئاً ذا معنى.
اسمح لنفسك أن تكون سخيفاً
الكثير من المهمات مع الكثير من الإنجاز الخالي من المعنى. ألم يأن الأوان أن نلصق فوق أسرّتنا ورقةً مكتوباً عليها "اسمح لنفسك أن تكون سخيفاً" أن تقف في طابورٍ لا تريد من وصولك للصف الأول شيئاً، واقفٌ دون انتظار ختم بطاقة أو دفع ثمن شيء، وإن رأيتَ أحدهم تأفف من الانتظار أعطه دورك وانظر إليه وهو ينطلق يريد فقط الانتهاء من مهمته، ليس ليرتاح بل لينطلق لمهمةٍ أخرى. انظر إليه ولنفسك ولهم، جميعنا لا يملك سوى هذه اللحظة الآنية بينما نواصل اللحاق بالمستقبل الذي سيظلّ مستقبلاً ونظل نلاحقه فننتهي نحن ويظلّ هو أمامنا.
قيل لحكيمٍ آخر: كم عشتَ؟
قال: بضع لحظات
نعم هي بضع لحظات، حياتنا ليست بعدد السنين التي تمرُّ بل ما وعيناه من هذه السنين، وما حصّلناه من معنى هو نتيجة وعينا للحظة الراهنة، لكنّنا نعيش اللحظة ولا نعيشها، غارقون في تحليل الماضي أو الندم عليه والتخوف من المستقبل أو عقد الآمال عليه.
أستطيع إعادة مهامي الأسبوعية من جديد بوعي، والحرص على الاستمتاع بها وإن كان اسمها مهمة، لكن أفكّر في اللحظات التي لا نستطيع إعادتها لنعيشها من جديد، ماذا لو كانت هذه اللحظة هي ليلة زفافي أو نجاحي أو دفني لصديقٍ ما، ولم يكن حاضراً سوى جسدي بها، تُرى هل سأتذكّر وأنا في دار المسنين بعد 50 عاماً هذه اللحظات التي لم أعشها وأبتسم! أو هل سأكون خالي البال مقتنعاً بما عشته دون أن يكون لدي ندمٌ على أمور لم أفعلها.. لا أدري.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.