قليل من القواعد.. كثير من الماتشات .. عن أصعب امتحان في حياتي!

عربي بوست
تم النشر: 2021/05/24 الساعة 14:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/05/24 الساعة 14:16 بتوقيت غرينتش

(1)

ظللت أنتظر منحة الذهاب لألمانيا لأكثر من سنتين، وعندما ذهبت أخيراً في نهاية 1996 كان عليّ أن أتعلم الألمانية أولاً ثم النجاح في امتحان اللغة المطلوب من الطلبة الأجانب للتسجيل في الجامعات الألمانية واسمه (DSH) وهو كما في عنوان البوست أهم الامتحانات وأقساها في حياتي الدراسية. ولا يمكن لطالب أجنبي أن يبدأ دراسته أو يسجل للدراسات العليا دون النجاح في هذا الامتحان. وقد استغرق مني الأمر عاماً كاملاً. من أكتوبر/تشرين الأول 1996 وحتى أكتوبر 1997. ولم يكن لي عمل خلال هذا العام إلا دراسة الألمانية ليل نهار. وكما يقال إذا حلمت بلغة فقد أتقنتها.

(2)

وصلت في أول أكتوبر إلى مدينة مانهايم والتحقت بمعهد جوتة وأُسكنت في سكن المعهد مع بعض المصريين والعرب. الحقيقة كنت أذاكر بطريقة جيدة ولا أشغل نفسي كثيراً بالعلاقات المتأزمة هنا أو هناك إلا أن نتائجي في الاختبارات كانت سيئة وأحياناً الأسوأ في الفصل، خاصة بعد أن انتقلنا لدورة مكثفة استعداداً لهذا الامتحان. وكان ذلك لأسباب عدة مثل: كثرة حديثنا بالعربية (جيتو عربي)، وكثرة استماعي لشرائط الأغاني المصرية والعربية. وقد اكتشفت آنذاك دكاناً لبائع عراقي يخصص جانباً كبيراً منه للتسجيلات المصرية والعربية، وقد ضاعت فلوسي هناك فعلاً. وأخيراً فشل مشروع زواج كنت أعول عليه آنذاك.

وكان مما زاد الطين بلة أن النصوص التي ندرسها كلها علمية بحتة ومليئة بمصطلحات في الفيزياء الكيمياء والرياضيات، ولا نص واحد عن الأدب الذي أريد دراسته. وكانت النتيجة أن طلبة المواد العلمية من كل أرجاء العالم متفوقون، لأنهم يعرفون المصطلحات والموضوعات بالإنجليزية أو بلغاتهم الأخرى بينما كنت الوحيد الذي يبدو كالحاضر الغائب.

ولأنني كنت خائفاً من الرسوب قررت ألا أمتحن في معهد جوته بمانهايم حيث كنت أدرس، وإنما في جامعتي بمدينة بامبرج، لأنها متخصصة في العلوم الإنسانية، وبالتالي ستكون نصوص الامتحان في هذا المجال وليس في العلوم الدقيقة البحتة.

وكتبت بذلك للمشرفة ولمكتب الطلاب الأجانب، فلما وافقا انتقلت لجامعتي تلك فوجدت أن الامتحان بعد أسبوعين وأن هناك دورة بدأت منذ شهر لإعداد الطلبة الأجانب لهذا الامتحان. ورغم أنني التحقت بما بقي من الدورة وذاكرت بجدية كبيرة فإنني رسبت رغم ذلك في الامتحان اللعين. والغريب آنذاك أنني كنت أحفظ كتب القواعد الألمانية، ولكن لا أجيد النطق بجملة واحدة بطريقة سليمة، فكنت أتلجلج ولا أكاد أُبين هذا رغم أنني كنت أتعلم منذ ستة أشهر! ولكن الامتحان في أربع مهارات لغوية، وواحدة فقط لا تكفي.

(3)

وفي الأشهر التالية كانت توجد فرصة ثانية وأخيرة، وإلا أعادوني لمصر. وظللت أؤنب نفسي وأعذبها لمدة أسبوع كامل لأنني سأضيع بغبائي المنحة التي انتظرتها طويلاً. وفي النهاية وضعت لنفسي خطة وكتبتها بخط أحمر عريض وعلقتها أمامي على المكتب. وكانت بالفعل خطة انتحارية لمدة ستة أشهر.

وما زلت أذكر أول نقطة فيها: (ابعد عن كل المصريين والعرب). ثم جاءت النقاط التالية: (قليل من القواعد كثير من الألمان). (حضور محاضرات وندوات بشكل يومي). (كثير من التلفزيون: من ماتشات البوندسليغا حتى الأفلام أي كانت). (لكن لا تتفرج على شيء إلا ومعك ورقة وقلم لتكتب ما تسمع وتستخدمه بعد تصحيحه وتجريبه وتخيل المواقف)، ومازال لدي حتى الآن الكثير من الدفاتر التي كنت أسجل فيها كل ما أسمعه وتصحيحاته وتركيب جمل مشابهة. (الأسطوانات العربية في الزبالة وبدلاً منها أسطوانات الأغاني الألمانية خاصة القديمة والتي تحوي نصوص الأغاني)، فكنت أسمع والنص أمامي ثم أبحث عن معانيه لأفهمه ثم أعيد الاستماع حتى أغنيه بسلاسة مع الأسطوانة. وكانت أغاني مارلين ديترش تجذبني كثيراً رغم الأعراض الجنسية الملازمة لها! (وأخيراً: القراءة بالألمانية فقط) فكنت أشتري صحيفة ألمانية يومياً وأعكف عليها ساعة أو ساعتين والقاموس مفتوح أمامي وقد استهلكت نسختين من معجم شيرجله الضخم.

واشتريت أيضاً ترجمة ماكس هيننج لمعاني القرآن الكريم بتقديم أنا ماري شيمل وكنت أقارنها بالأصل العربي، خاصة قصار السور وأتعلم بالمقارنة. ولأنني كنت قد أحضرت معي من مصر الترجمة اليسوعية للكتاب المقدس للدراسة فقد اشتريت الترجمة الألمانية أيضاً، وكنت أقارن فيهما الأسفار التي أحبها خاصة الأسفار الأدبية كنشيد الإنشاد وسفر الجامعة، وهذا تحديداً لعب دوراً كبيراً في نجاحي في الامتحان فيما بعد! وزد على ذلك أنني بدأت آخذ دروساً خاصة على يد طالبتي دكتوراه كل منهما تأتيني – أو أذهب إليها – مرتين في الأسبوع، كل مرة ساعة لنتحدث معاً وتدلني على أخطائي اللغوية، ولعلمكم البنات أجمل وأحلى من يعلم اللغات خاصة في البدايات! وكنت أدفع لكل واحدة منهما عشرة ماركات في الساعة الواحدة!

(4)

وقد ظللت هكذا حتى قبل الامتحان بأسبوع واحد وهوب أصبت بنزلة برد انقلبت لحمى شديدة تشبه حمى المتنبي في مصر. وآنذاك كانت بشائر الشتاء قد هلت، وما زلت أذكر أن الطبيب زارني في السكن بينما ندف الثلج تتساقط في الخارج. وكان هذا الطبيب الألماني هو أول من قال لي إنني اتحدث الألمانية بشكل جيد. وهذه شهادة عظيمة لو تعلمون! وهذا الامتحان لمن لا يعرف يستمر ليومين طويلين ويكون في المهارات الأربع المعتادة: (كتابة واستماع وقواعد وشفوي)، ويقوم به أساتذة الأدب الألماني في الجامعة، وأي غلطة في أي امتحان لن تشفع، خاصة أن الدرجة لا تكون متوسط الامتحانات الأربعة، ولكن درجة الأقل منها، وأنت لا تدخل الشفوي إلا إذا حصلت على 60% في الامتحانات الثلاثة الأولى.

ونصحتني إحدى البنتين بتأجيل الامتحان، لأنه يتطلب تركيزاً عالياً، بينما أشعر بمخي يلق داخل الجمجمة. فقلت لهما: "إنني رغم مرضي أشعر وكأن قوة جبارة تدفعني لأداء الامتحان وتقول لي ستنجح بمجرد اشتراكك"، فظنتها من هلوسات الحمى!

وآنذاك فوجئت بزيارة من زملائي والمدرسين الألمان! وكنت أظن طوال الوقت أنني الأكثر إزعاجاً في الفصل، وأنهم ربما ارتاحوا بمرضي، ففاجؤوني بأنهم افتقدوا فكاهاتي وأسئلتي التي تدل على خبرة! وتأملت كلمة "خبرة" قليلا ثم قلت: "الحقيقة لا توجد خبرة أكبر من أن ترسب في امتحان، خاصة إذا كانت لديك فرصة ثانية، ففوائد الرسوب الأول لا تعد ولا تحصى!". وعندما نصحوني بالتأجيل كررت على مسامعهم الجملة الألمانية الوحيدة التي حفظتها من سفر الجامعة بن داوود: "لكل شيء وقته. للحرب وقت. وللحب وقت. وللموت وقت"، وأضفت: "وللامتحان وقت، وهذا وقته". فضحكنا حتى تعبت وقالت لي إحدى المدرسات: لو كررت على الممتحنين هذا النص ستنجح دون ريب!".

(5)

وذهبت بالفعل إلى الامتحان التحريري وانتهيت منه في 30 أكتوبر ثم انتظرت حتى استدعوني للامتحان الشفوي. وبعد الحديث قليلاً عني وعن الدكتوراه وموضوعها، وبينما أنتظر بدء الامتحان أخبروني بنجاحي! وعندما سألت عن الامتحان الشفوي قالوا لي: هذا الحديث الذي مر هو الامتحان الشفوي وقد تبينا منه قدرتك على الحديث وسرعة فهمك وهذا يكفي. ولم أجد أي فرصة لجملة سفر الجامعة بن داوود، فخرجت وأنا مندهش وشعرت أنهم خدعوني رغم خبرتي المزعومة! وقد رسب بالفعل جيش جرار من الطلاب، ولم ينجح إلا 11 طالباً فقط كنت رقم 7 بينهم. أي أنني لم أكن الأول رغم كل ما فعلته. وقد سبقني كل زملائي المقربين: لوتسي التشيكية وبافل البولندي ويارك البولندي الذي يحب لوتسي ولكنها لا تهتم به، ولم يأت بعدي من هؤلاء الزملاء إلا تشان الصيني، وقد حكيت عنهم كلهم من قبل.

(6)

وفي مساء هذا اليوم الثاني أقمنا حفلة صاخبة، وهذا هو التقليد المتبع هنا، فظن خيراً ولا تسأل عن التفاصيل! المهم كنت في حالة رضاء تام عن النفس، ولكنها لم تصل للغرور. ربما لأن الرسوب الأول وخطر الفشل علماني التواضع وأقنعاني بضرورة بذل أقصى ما يمكن من جهد حتى تنجح فقط، لأن الألمان حاسبين كل حاجة بالضبط ومنذ زمن بالتأكيد. والآن كلما تذكرت كل هذا قلت لنفسي: إن الرسوب الأول له فوائد لا تعد ولا تحصى!

وعدت للسكن مع مطلع الفجر، فلما طلع نمت ثم صحوت وأنا أشعر بحب جارف للحياة، فاتصلت ببعض من أعرف في مصر وقلت لهم: "سلامي لمصر وقل للجميع إنهم لم يوحشوني، وإنني لن أرجع الآن، ولا أعرف متى، ومسير الحي يتلاقى!".

(7)

وفي الأسبوع التالي مباشرة فوجئت بخطاب من مكتب الطلاب الأجانب يطالبني بمغادرة السكن الطلابي، لأن طلبة الدكتوراه غير مسموح لهم بالسكن الجامعي. وبالتالي كان عليّ البحث عن سكن جديد. ولكن هذه حكاية أخرى.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبد السلام حيدر
أستاذ جامعي متخصص في التاريخ
أستاذ جامعي متخصص في التاريخ
تحميل المزيد