المفهوم الذي يتداوله البعض حول الحقيقة لدى نيتشه، يُعاني من ابتذال مشين، يُشوِّه الأطروحة المروعة التي خطها نيتشه بدمائه وجنونه.
لا يمكن أبداً أن نفهم نيتشه بقراءة قولات متفرقة حول أفكاره، أو بالاكتفاء بكتاب واحد يشرح أطروحته أو يسردها، بل لا بد أن يحاول القارئ الباحث أن يقرأ أغلب كتبه، وخاصة كتبه المحورية: "هكذا تكلم زرادشت"، "ما وراء الخير والشر"، "في جنيالوجيا الأخلاق"، "أفول الأصنام"، "نقيض المسيح"، "إنسان مفرط في إنسانيته"، "مولد التراجيديا" (الذي يعتبر أقل أهمية من الكتب الواردة هنا)، أما الكتب التي لم أضعها فيمكن اعتبارها إما تكراراً لبعض الأفكار أو تبسيطها، أو حتى يمكن اعتبارها مناقضة في بعض الأحيان لأفكاره الرئيسية. (ويعتبر كتاب "إرادة القوة" كتاباً هجيناً لا يرتبط كثيراً بنيتشه أكثر مما يرتبط بأخته).
لنعد لمفهوم الحقيقة لدى نيتشه، فهي عكس البداهة السائدة بين البشر، التي تعتبر أن الحقيقة هي جوهر سامٍ معزول عن الإنسان، يوجد كـ"كيان" علوي، يسعى الإنسان للوصول إليه عن طريق "المعرفة".
فهذا الاعتقاد يؤكد أن الإنسان العارف طيب بذاته، يحاول الوصول إلى الحقيقة بكل جدية، وحين يصل لها (حسب اعتقادهم)، يقوم بنشرها بين الناس بكل نزاهة، حتى يخرجوا من الكهف (الأسطورة الأفلاطونية) والظلام (الأسطورة الدينية) والتخلف (الأسطورة العلمية)، حسب نيتشه دائماً.
لكن السؤال هو لماذا يسعى الإنسان لهذه الحقيقة؟ هنا يصرح نيتشه أن الإنسان يحاول أن يصل إلى الحقيقة لكي يستدل على أن "الوجود" عقلاني وليس عشوائياً، أي هناك نظام وغاية من الحياة. وهذا الأمر ضروري لكي يشعر البشر بالأمان، فاللامعنى في الوجود أخطر على حياتهم، لهذا اخترعوا وهم "النوص واللوغوس في الكون" لكي ترتاح نفوسهم الضعيفة (حسب اعتقاد هذا الفيلسوف دائماً).
إذاً، الإنسان يشعر بعقله، ثم يفرضه على كل الوجود بالكامل، فوعيه لا يسمح له بأن يقبل بوجود دون نظام أو عقل.
فلا يمكن للإنسان أن يقبل أن وجوده حصل بدون علة وبدون غاية، وهذا ما يدفعه إلى أن يخلق وهماً يتمحور حول وجود عالم "سماوي" هو علة عالم "الأرض" وغايته، وهذا ما يقود في الأخير إلى إنتاج "الأخلاق" والتضييق على إرادة "الحياة" (التفصيل في هذا الموضوع يحتاج لصفحات).
الأهم من هذا، هو أن نيتشه يؤكد أن الإنسان ضعيف بطبيعته (المرض الجلدي للأرض حسب تعبيره)، لأنه يحمل عقلاً، فعدم قدرته على مواجهته لـ"حقيقة" أن الحياة بدون نظام وبدون عقل وبدون غاية، قاده إلى اختراع عالم آخر يحمل حقيقة ميتافيزيقية (في الدين والفلسفة) تريح نفسيته ولا تضعه في مأزق الفوضى الوجودية.
فحتى الحقيقة التي يحاول العلم ترويجها، هي حقيقة لا تفترق عن الحقيقة الميتافيزيقية سوى في محاولة "تأريضها" (جعلها ترتبط بالحياة البراغماتية)، فهي أيضاً تتغيّا البحث عن نظام للعالم، فعوضت قوانينها العلمية، النواميس الدينية والمثالية الفلسفية، ويبقى الغرض دائماً هو صرف القلق المفزع الذي يحيط بالإنسان؛ ألا وهو "الوجود بدون أساس عقلاني". ففرضية العلم تبقى دائماً مجرد مسلّمة (بدون دليل) والتي تؤكد أن الكون له نظام، فلو لم ينطلق العلم من هذه الفرضية ما توصل للقوانين العلمية.
وبالفعل، فنيتشه يسحب البساط من كل الفلاسفة والمتدينين والعلماء، ليؤكد أن الحقيقة الوحيدة الموجودة هي أن الوجود بدون أساس، وأن هناك فقط تأويلات، كل تأويل يجعل من نفسه أساس الوجود (لكن كل تأويل يحتاج لتأويل وهذا ما يدخلنا في دوامة لا نهائية). ويعاتب نيتشه الفلاسفة على عدم تصريحهم بهذا الأمر، متيقناً بأنهم قد توصلوا له، لكنهم أخفوه عن البشر.
هكذا يحاول نيتشه أن يؤكد، أن السؤال حول السبب والغاية هو سؤال الضعفاء، فرضه العقل على البشر، في حين أن السؤال الأساسي الذي لا بد من طرحه هو "كيف نعيش على أرض كما هي موجودة"، فعِوض "إرادة الحقيقة" (التي تسعى للوصول إلى إيجاد معنى للحياة)، لا بد من العودة لـ"إرادة الحياة" (التي تسعى إلى العيش بأكثر فاعلية وقوة ونشاط على الأرض).
يعترف نيشته في مواقع كثيرة، بأن إرادة الحقيقة هي الأكثر سيطرة على البشر، لأن طبيعتهم تفرض هذا الوضع، ولا تتمكن إرادة القوة من الاستحواذ على السياق الأرضي إلا في أوضاع نادرة، لهذاعتبر أن الأرض سيطر عليها العبيد (الضعفاء) أكثر من (الأسياد) الأقوياء، وما زاد من ترسيخ هذه السيطرة هو خلق أسطورة العدالة المطلقة التي ستلاحق الأسياد بعد الموت، والتي قادت إلى إنتاج حياة الشفقة والضمائر في ذواتهم، وهذا ما زاد من استفحال مرض الأرض (ونيتشه يحاول أن يكون طبيبها كما يقول).
و طبعاً، نعلم أن نيتشه يؤكد أن اللاوعي هو الذي يسود الأرض، والوعي مجرد جزء صغير وضئيل جداً، تمظهر في الإنسان، وهذا التمظهر الصغير خلق ديكتاتورية استبدادية على الوجود نكرت وهمشت بل أخفت كل أشكال اللاوعي السائدة فيه، أي أن هذا الوعي هو المرض الجلدي الذي يقصده نيتشه، والذي يسعى إلى إخفاء الحقيقة، فالوعي هو نقيض الحقيقة عند نيتشه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.