لَطالما كنت أرى هذه الحياة محيطاً أزرق داكنَ اللون ليست له نهاية، والبشر به يبحرون على ظهر مراكب شراعية، تتقدم وكأنها في سباق.
كما "مركب الزواج" المصطلح الذي أراه مناسباً أكثر من "مؤسسة الزواج".
هو مركب يجتمع فيه الزوجان، يجدفان معاً في نفس الاتجاه، يغيران اتجاه أشرعتهما حتى تساعدهما الرياح في التقدم أسرع، يُصلحان ثقوبه حتى لا يتسرب إليه الماء فيغرقان معاً، يُرزَقان بأطفال يكبرون، فيُمسك كلُّ واحد منهم مجدافاً ليساعدهم، فيتقدم المركب بسرعة أكثر، إلى أن يقرِّر الأبناء الواحد تلو الآخر أخذ مركب خاص به ليقوم بما قام به والداه، فيبطئ مركب الوالدين اللذين شاخا وتعِبا من إبحار السنين، فيخيّم الهدوء على مركبهما بُطْئاً حتى يختفيا عن الناس، فينتقلان إلى مركب أحد أبنائهما فيجلسان في ركنه، يتأملان الشباب يجدفون، والصغار يركضون، وكل حركة تذكرهما بما عاشاه منذ سنين، وهما على هذا الحال مصدر حكمة للكبار ومصدر محبة للصغار، إلى أن ينطفئا رويداً رويداً، ويأتي ذات صباح فينظر الابن إلى ذلك الركن ليجده فارغاً.
غير أن المراكب كلها لا تسير بالطريقة نفسها، ستجد من بين المراكب:
مركباً مليئاً بالمرح والسعادة والنشاط، صاحِباه يجدفان ويملآن المكان بالضحك، يُبحران بسعادة، يوزعان ثقل مهامهما اليومية بعدلٍ ورأفة ببعضهما، يبقيان على هذا الحال أو ينطفئ حماسهما بعد حين، أو يشبّ بينهما خلاف فيترك أحدهما السفينة ملقياً وراء ظهره كل ذكرياتهما السعيدة.
مركباً يجدف صاحباه في صمت، الحب الشغوف غائب بينهما، لكنهما يعرفان دوريهما جيداً، يُتِمَّان الإبحار في صمت مُميت، تشوبه بين الحين والآخر نقاشاتٌ حادة قد تنتهي، فيرجعان إلى عادتهما، وقد تنهيهما فيغادر أحدهما المركب.
تجد مركباً صاحباه يجدفان في اتجاهين مختلفين، يعتقدان أنهما يتقدمان بينما هما لا يتحركان من مكانهما، له اهتماماته ولها اهتماماتها، يعتقدان أنهما يبحران لكنهما لن يفعلا حتى يفهما أن التجديف عليه أن يكون في نفس الاتجاه، وإن رفض أحدهما ذلك سيضطر إلى ترك المركب أو إجبار صاحبه على تركه.
ومركب به قبطان شديد قوي نشيط، لكن من معه بلهاء لم يفهموا دورهم جيداً، وأنه مركب إن غرق هلكوا جميعاً، فهذا يثقب السفينة، والثاني يهرب بالمجداف، والآخر يلقيه في البحر، وآخر يقطع الأشرعة، وآخر يحرق المركب.
وتجد مركباً به شخص وحيد، متردد في جلب رفيق أو مجربٍ فشل في الإبحار مع رفيق.
كل هذه الحالات وغيرها تجسدت أمامي في قصص كنت شاهدة عليها، لكن ما أثر بي هو قصة امرأة كانت تبحر بمركبها بشجاعة، تقاتل الأمواج بخوف داخلي يكسر العظام، وشجاعة خارجية تجبر نفسها على الظهور بها أمام أطفال صغار وعجوزين كانوا معها بالمركب، كان بذلك المركب ربان مجنون، كان يجدف إلى الخلف تارة ويرمي المجداف تارةً أخرى، يُحدِث ثقباً بالمركب وينتقل إلى تمزيق الشراع بينما هي تحاول إصلاح الثقب، تنتبه إلى أنه مزّق الشراع فتجري لإصلاح ما يمكن إصلاحه، لتجده قد بدأ في إيقاد نار لحرق السفينة.
توقفت لثوانٍ ورمت به من المركب دون تردد، فأصلحت ما سببه من دمار، ولملمت شجاعتها وأمسكت بالمجداف واستمرت في المسير، كانت بين الحين والآخر تلتفت إلى الأزواج على مراكب تمر بجوارها، تراهم يتعاونون فيما بينهم، بينما يمسك أحدهم المقود، الثاني يغير اتجاه الأشرعة، إن تعب أحدهم أخذ عنه الآخر مسؤولياته، كانت تنظر إلى سواعد الرجال الممتلئة التي توحي بالقوة والصمود وهي تحرك الشراع بسهولة، حركة تتطلب منها الجهد النفسي والجسدي، إن تأكدت ألا أحد ينظر إليها انهارت وبكت من الحزن والضعف لدقائق قليلة، ثم نهضت ولملمت ضعف حيلتها جانباً، وقامت لإكمال الطريق، كان خوفها، كل خوفها، أن تشيخ، أن تمرض أو تتعب قبل أن يكبر أطفال المركب.
أو أن تستفيق ذات صباح فتجد أحد شيوخه قد اختفى من على ظهره واختفت معه الحكمة والبركة التي كانت بوجوده.
تبحر في خوف من الماضي وما تركه من ثقل على كتفيها من الحاضر ومسؤولياته، ومن المستقبل وما قد يحمله معه، من موجة عالية تأتيها على حين غفلة فتغرق المركب بمن فيه، لذلك فهي تُرغم نفسها على أن تبقى يقظة طوال الوقت، تخاف أن تضعف أمام أحد قد يَعِدُها أنه سينضم إلى المركب لمساعدتها فتجده عبئاً عليها، يتعاون مع الزمان عليها، لا معها عليه، وما أكثر من يتظاهر بالتجديف بينما هو جالس مرتاح، اهتماماته كل شيء إلا تقاسُم المسؤوليات.
سألتها يوماً: ما الحل حتى ترتاحي؟
قالت لي بعد صمت طويل: ليس هناك حل لما أنا فيه، ولا وقت لي حتى لأفكر فيه، حياتي تغيَّر مسارها يوم تركت المجتمع يجبرني على الإبحار مع مجنون، ولن يتغير ثانية إلا مع مجنون يقبل أن يبحر في مركب مع امرأة تعودت أن تحمل ما لا يقوى عليه الرجال، قد ترميه من على ظهر المركب بعد أي خطأ يرتكبه، أو رجل حكيم لا يخطئ، قوي يجعلها ترى الفرق في وجوده، يمسك زمام الأمور، فتأمن أن تغمض عينيها لوهلة، طيب رحيم يشفق لحالها ولحال من معها.
نظرت إليَّ مجدداً وقد ظهرت ملامح التعب فجأة على محياها، وقالت باستسلام: في ظل استحالة قبولي بالأول، واستحالة وجود الثاني، فالإبحار وحدي هو الحل.
حاولوا أن تساعدوا مراكبكم على البقاء على سطح البحر، لا تكونوا كذاك الذي يرمي المجداف أو يجدف إلى الخلف أو يتظاهر بأنه يجدف، لا تكونوا ذاك الذي يمزق الأشرعة، أو ذاك الذي يثقب المركب، إن كنت من بين هؤلاء فنصيحتي اقفز قبل أن تغرقه بمن فيه، أو أن يُلقَى بك من على ظهره.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.