اليوم كان رائعاً، اصطحبت أطفالي إلى أحد عروض السيرك في المدينة، لم أذهب إلى السيرك منذ نحو ثلاثين عاماً حين نظمت مدرستي الابتدائية رحلة إلى أحد العروض، وأذكر أنني دفعت حينها خمسة جنيهات كاملة لأستمتع بالعرض، وقد كان مبلغاً هائلاً في ذلك الوقت، غير أنني لم أستمتع به كثيراً، وبدا لي عرضاً سخيفاً مملاً. لكن أطفالي الصغار قد استمتعوا أيما استمتاع، وملأت ضحكاتهم المجلجلة الأجواء، والحق أنني سعدت باستمتاعهم وبالعرض في آن واحد. فقد كانت براعة اللاعبين فائقة الحد، وكانت المقارنة بينهم وبين من جاؤوا لمدرستنا كالمقارنة بين فريق ليفربول الإنجليزي ومركز شباب "نجع سبع" في محافظة أسيوط!
وأكثر ما أثار إعجابي فتاة لم تتجاوز الثامنة عشرة تقوم بحركات ورقصات شديدة الخطورة على ارتفاع نحو عشرين متراً بلياقة ومرونة تثيران الانبهار والنشوة. ولا يمنعها من الجاذبية سوى قطع من القماش المعلق بحلقة معدنية سميكة، وقد تعلقت عيني بها على هذا الارتفاع الشاهق، وأنا أدعو الله أن تعود إلى الأرض سالمة، وقد صفق الحاضرون لها طويلاً بعد هبوطها بأمان، وكنت أكثر من صفق لها في المدرجات.
خفتت أضواء الساحة الضخمة فجأة، واندفع نحو المسرح عدد كبير من الشباب في أيديهم قضبان حديدية شرعوا في تركيبها حول الساحة في سرعة ومهارة ودقة بحيث شكلت سوراً مرتفعاً عازلاً الساحة عن الجمهور من الجهات الأربع، أتموا مهمتهم وخرجوا في سرعة، ليحل محلهم اثنان من المدربين، وخلفهما اندفعت أربعة نمور ضخمة في سرعة ونظام، وأخذ كل منها موقعه على المقعد المخصص له في أحد أركان القاعة، وسط تصفيق الحضور، وهدوء النمور التي بدا تعودها على تلك الأجواء، ثم ساد الصمت.
لحظات من الترقب والاهتمام أثارت في نفسي هيبة عجيبة ومشاعر غامضة، وتعلقت العيون بمدخل المسرح بشكل يوحي بعظم قدر القادم من ذلك الباب، بعد وقت قليل دلف إلى المكان أسد بخطوات وئيدة متمهلة واثقة، كان نحيفاً عجوزاً، بدت عظام بطنه بارزة، وآثار الزمن بادية في عينيه اللتين خُيل إليّ أنهما مملوءتان بحزن يكفي لأجيال، غير أن ذلك كله لم ينقص من هيبته شيئاً، كان مرفوع الهامة، أكسبه شعره الكثيف رهبة وجلالاً، وكملك متوّج صعد إلى كرسيه الموضوع في منتصف القاعة تماماً، وجلس ينظر إلى الفراغ، لا يعنيه كل ما يدور حوله من سخافات وترهات.
سيرك وأسد
شيء في هذا المخلوق سحرني، صرت كالمجذوب إليه، تعلق بصري به دون غيره في جلسته الهادئة الواثقة، ذهنه الشارد خارج حدود المكان والزمان والبشر. لم أنتبه إلى ألعاب النمور وصرخات أطفالي وتعليقات زوجتي، كيف يكون بهذا الهدوء والسكينة في وسط ذلك الصخب، كيف يحفظ وقاره وهيبته وكل شيء حوله لاهٍ لاعب مبتذل… فيم يفكر؟ كيف يشعر؟ هل يشعر؟ أقسم أنه يشعر!
ما الذي جعل هذا الوحش الملك حزيناً عاجزاً راضياً بهوانه بل وغير مكترث به، هل وُلد في السيرك، أم أُسر منذ زمن بعيد من موطنه، لم يبدُ لي قط أنه مجرد أسد سيرك وُلد في قفص، بمَ تموج أعماقه؟ ما الذي مر به؟ وماذا حطم قلبه؟ ما الذي يجعله حراً في أسره، عظيماً في مهانته، قوياً في ضعفه، مهيباً في قفصه، مخيفاً وقد انتزعت أنيابه!
انتهت فقرة النمور وسط صراخ الحضور وصفيرهم وتصفيقهم، بينما رفعت النمور مقدماتها ترد التحية، وازداد صراخ وهيجان الأطفال، وجاءت فقرة الأسد، أشار إليه مدربه، فنزل من على كرسيه، صار في هدوء يقفز بين الحلقات المشتعلة وفوق الحواجز ويصعد العوائق في بساطة وسهولة أثارت دهشتي، ثم قفز فوق رأس مدربه في مرونة ولياقة انتزعت آهة من أعماقي، لم أتوقع أن باستطاعته ذلك نسبة إلى سنه، لكنه فعلها بنفس البساطة التي يلتهم بها أحدنا شطيرة، انتهت الفقرة، عاد الأسد إلى كرسيه في سرعة كمن يغادر موقفاً سخيفاً وسط هياج الناس وصرخات الأطفال، لم يعبأ بهم بمقدار ذرة، عاد فوراً إلى تأمله وشروده وطمأنينته، وكأنه لم يبذل لتوه جهداً هائلاً!
وددت لو ظللت أحدق في عينيه، لعلني أستطيع النفاذ إلى أعماقه أو التسلل إلى عقله، خفتت الأصوات من حولي، انفصلت عن كل ما يدور، لم أعد أرى سواه، لا أسمع سوى سكوته، لا أشعر بغير هيبته، لا ألمس سوى حزنه وآلامه.
عندما ابتلعني أسد السيرك
الآن أنا في عالمه، عالم ليس فيه غيره، وفجأة التفت نحوي، وجه بصره مباشرة حيث أجلس وسط مئات الصارخين، أقسم أنه نظر في عيني مباشرة، وانتابتني انتفاضة هائلة إثر قشعريرة سرت في بدني رجت كياني بعنف، وكأنه يتطلع نحو ذلك الذي تجرأ ليخترق عليه خلوته، ويقتحم عالمه، ويعكر هيبته، ويقطع تأمله، واجتاحني رعب هائل، كيف عرف أنه أنا من انشغل بحاله، كيف شعر وأحس بي وأنا لم أنبس ببنت شفة أو تبدو مني التفاتة.
قليلاً وذهب الروع عني، دار بيننا حوار طويل، لا أذكر منه كلمة واحدة، لا أذكر كيف دار، ولا ماذا قال، ولا ما قلته! عشرات الصور تتزاحم في رأسي لا أتبين ملامحها، ولا أذكر ما فيها، لكني أعرف كل تفاصيلها، غير أني غير قادر على وصف أي منها.
فجأة غادرني صامتاً دون وداع، هممت أن ألاحقه، أرجوه أن أقضي معه قليلاً من الوقت بعد، أن يأذن لي في زيارته أحياناً، لكنه لم يعبأ بي، انتبهت وزوجتي تهزني حتى نغادر، قد انتهى العرض، وغادر صديقي!
غادرت وأبنائي يسترجعون ما رأوا في انتشاء وحماس، غير أنني ما زلت هناك لم أغادر عالمه وإن غادرني. ما أشبهه بعالمي، أعيش في سيرك أروم فيه قليلاً من السكينة فلا أجدها، قليلاً من المشاعر والتأمل والشرود فلا أجد، لكني لست بأسد، لست سوى أحد لاعبي السيرك، ربما أنا أحد المهرجين قليلي المهارة، لا أرى سوى ترهات ولا أسمع غير الصخب ولا أشم سوى القذر، غير أنه لا مزيد من ذلك بعد الآن، قد عاهدت نفسي أن أكون في سيرك العالم أسداً، لا يعبأ به، حتى لو كان في القلب منه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.