بدايةً أعرفكم بنفسي، أنا سيد حسن، مصور صحفي مصري، عمري 27 عاماً، أعمل بمجال التصوير منذ عام 2014. عملت في كل شيء، جربت العمل صباح مساء في كل مكان تتخيلونه. بدأت العمل وأنا طفل صغير، منذ كنت في الصف السادس الابتدائي. عملتُ في مصنع ملابس، وعملت على عربة فول، وعملت نادلاً وعاملاً في محلات كشري، عملتُ "بِليةً" (صبيّ حداد) في ورشة حدادة، وعملت في ورشة أحذية، وعملتُ كذلك تاجراً في السوق.
بدأت قصتي مع التصوير في أثناء عملي بأحد المعامل الشهيرة، حيث سلموني كاميرا ديجيتال تابعة للعمل حتى أصور بعض الدعاية لهم، لم تكن هذه وظيفتي الأساسية، وإنما لأنه لا أحد معين يقوم بهذا، فكلفوني بالمهمة، وكنت شغوفاً جداً بالتصوير قبل أن أحمل كاميرا، وحين أتيحت لي فرصة الكاميرا، استغللتها بالسفر قدر المستطاع إلى أكبر عدد من محافظات مصر، وكنت أصور كل المواقف التي أشاهدها، والمناظر التي تستوقفني وأحب مشاهدتها مجدداً.
جمعية بـ235 جنيها
بعد ذلك عملت في مصنع للبدَل، وفي قلبي حبٌّ يزداد تجاه الكاميرا، كان راتبي في الأسبوع 200 جنيه مصري (ما يعادل نحو 30 دولاراً في ذلك الوقت)، ودخلتُ جمعيةً لتدبير ثمن الكاميرا، كنتُ أدفع للجمعية 235 جنيهاً كل أسبوعين من أصل 400 جنيه هي كل راتبي لتلك المدة، وبعد فترة قبضت الجمعية، وذهبت لشراء الكاميرا، وكان التاجر مخادعاً فباعها لي بثمنٍ أكبر من سعرها في السوق، وذلك بعد أن اقترضت من صديقٍ لي 700 جنيه أخرى فوق المبلغ الذي معي.
من المواقف الطريفة يوم شرائي الكاميرا، أنني كنت لا أستطيع فتحها وتشغيلها، فعدت إلى المتجر أطلب منه تشغيلها لي، عرفتُ منه السر الخطير للتشغيل، التقطت أول صورة، وحينها بدأت رسمياً بيني وبين نفسي، حكاية التصوير. اشتريت الكاميرا يوم الأحد، ودعاني صديقي لتصوير محاضرة له يوم الإثنين، كانت المهمة الفعلية الأولى.
بعد ذلك واظبت على التصوير محاولاً التوفيق بين حبي له وبين كوني عاملاً في مصنع، فأعمل من الإثنين للسبت كعامل، ويوم الأحد إجازتي الأسبوعية أمارس هوايتي المفضلة.
عطل في الكاميرا
بعد خمسة أشهر حدث عطل في الكاميرا، وكان ثمن تصليح العطل 300 جنيه، وراتبي رغم زيادته من 200 جنيه أسبوعياً إلى 225 جنيهاً، فإنه لم يكن يسع تصليح الكاميرا، مع التزاماتي المادية تجاه أموري المعيشية، فتركت الكاميرا بعطلها 7 أشهر دون تصليح، ولم أستعملها نهائياً طوال هذه الفترة، لكن على جانب آخر، استغللتُ ذلك الوقت في مشاهدة دورات للتصوير على يوتيوب، وقلتُ لنفسي: لماذا لا أصلح العدسة المعطلة بنفسي؟
عملتُ لفترةٍ في محل لتصليح أجهزة الإرسال والاستقبال التلفزيونية، كان ذلك دافعًا للمغامرة، شاهدت على اليوتيوب مقاطع فيديو عن فك وتركيب عدسة الكاميرا، نزلت إلى المحل في منتصف الليل، جمعتُ كل المفكّات الموجودة، وفككت كل جزء في العدسة، كانت المغامرة على خطورتها كوميدية، تخليتُ عن أجزاء في العدسة، ضاعت بعض القطَع وسط فوضى المكان، ألصقت الأجزاء الموجودة بـ"أمير" (صمغ) -عرفتُ فيما بعد أنه خطأ كبير-، ثم بعد ذلك مفاجأة! العدسة عادت للعمل، ولو بنصف طاقتها فقط، ولو بمشاكل في الجودة، لكنها عادت للعمل، عانقتها بحرارة وعدت للتصوير. لم يستمر الأمر طويلاً، المخترع المغامر بداخلي لم يفلح في محاولات "تلصيم" الكاميرا.
عامل في مصنع كيماويات
تركتُ العمل في مصنع البِدَل بـ900 جنيه شهرياً، وذهبت للعمل في مصنع كيماويات بـ2000 جنيه، وذلك لأن العمل في المصنع كان شاقاً وقليلٌ من يرضون بالمغامرة بصحتهم من أجل راتب أفضل قليلاً، المصنع في 6 أكتوبر وبيتي في شبرا الخيمة، (مسافة نحو 66 كيلومتراً)، كان دافعي للعمل هناك هي الكاميرا أولاً، ثم المساعدة في التزاماتي المادية تجاه نفسي وأسرتي.
بعد 7 أشهر، استطعت ادخار 800 جنيه بعيداً عن الضروريات التي ينفق فيها الراتب، اشتريت عدسة جديدة، ثم بعد ذلك قررتُ ترك مصنع الكيماويات، وقلت: أنا خلاص هشتغل مصور.
مصور بدون راتب
بدأت العمل كمتدرب في عدد من المواقع، دون راتب، واستغللت الفترة لتصوير كل شيء ممكن، وتابعتُ كل الأحداث التي أستطيع التصوير فيها، كان ذلك في أواخر 2014، وبدايات 2015. وإصراري على العمل والتفوق في مجال التصوير الصحفي، كان تحدياً لأحد الأشخاص الذي يعمل بجريدة مرموقة، وكان قد وعدني بتعييني في تلك الجريدة، بذلت الكثير من الجهد لإثبات نفسي، وكنت أسلمه الصور التي ألتقطها، لكنه كان يأخذها ويستفيد بها دون أن يبلغني بمصيرها، ورفض حتى إعطائي أي مستحقات، وتهرب مني.
حين بدأت التدرب في بعض الصحف أرسلت إليه أنني بدأت العمل لدى صحف أخرى، فقال لي: "عمرك ما هتكون مصور صحفي". فقلت له: "الأيام بيننا"، قال: "مواقع بير السلم هذه لن تصنع منك مصوراً، لأنك فاشل". تركتُ الرد للأيام بدلاً من لساني.
الخطوات الأولى نحو الحلم
أول حدثٍ أصوره بشكل كبير كانت مظاهرات طلاب الثانوية العامة وإضرابهم عن الدراسة، صورت في ذلك اليوم أكثر من 800 صورة، نشرتُ واحدةً منها فقط على فيسبوك، كانت لضابط في لحظة القبض على تلميذ، ولم يصورها أحدٌ غيري في ذلك اليوم، فحصدت الكثير من التفاعل والإعجاب.
استمررت خلال هذه الفترة في تصوير العديد من الأحداث، أكاد لا أفوت أي حدث، تفجير إرهابي، مظاهرات، جنازات شهداء أو مشاهير، شخصيات عامة، صورت الرئيس عبدالفتاح السيسي في احتفالات عيد الميلاد المجيد بالعاصمة الإدارية، صورتُ الكثير من الأحداث المهمة التي أفخر بتصويرها.
من الأحداث المهمة التي كانت فارقةً بالنسبة لي، تفجير في كنيسة مارمينا بحلوان، نهاية 2017، فذهبت مباشرةً للتصوير، ووضعتها على فيسبوك كذلك، فنالت الصور تفاعل الكثيرين، وشاركها الكثير من الأشخاص على مواقع التواصل الاجتماعي، وكانت من أبرز الصور الملتقطة لذلك الحدث، ووجدت زميلةً تعمل في وكالة أجنبية تسألني لماذا لم أرسل إليها هذه الصور، لكن وقتها لم يكن لديّ أي تواصل مع أي وكالة، لكن ذلك كان حافزاً لي.
طريقي للعالمية
بعدها تواصلت معي صحيفة "فيتو"، وعرضوا عليّ العمل معهم، فبدأت العمل وكان أول الأحداث التي أغطيها لصالحهم، احتفالات رأس السنة بمنطقة وسط البلد في 31 ديسمبر/كانون الأول 2017. بعد ذلك صورت العديد من المناسبات المهمة، مثل تصويري لمهرجان القاهرة السينمائي لـ3 سنوات متتالية، صورتُ مبارك في المحكمة وفي المستشفى وصورت جنازته.
ثم بدأت علاقتي بالوكالات الأجنبية، من خلال تغطيتي لمحاكمة أحد الزملاء الصحفيين، فتواصلت معي وكالة الأنباء الألمانية لشراء الصور، ومع الوقت بدأت الوكالات العالمية الأخرى تتواصل معي، مثل وكالة الأنباء الفرنسية، وأسوشيتد بريس، ثم APA، وغيرها من الوكالات، ونُشرت صوري في أماكن كثيرة منها على سبيل المثال "واشنطن بوست"، وهذا ما أفخر به في الحقيقة، لأنني كنت أحاول وضع اسمي "سيد حسن" كمصور صحفي، وما زال أمامي الكثير، لكني فخور بما حققته حتى الآن، لأنني وضعت قدمي على أول درجة في السلم.
بطولة الأمم الأفريقية
بعد ذلك جاءت بطولة الأمم الأفريقية بمصر 2019، لتكون خطوةً فارقةً في مشواري المهني، لم أكن أملك كاميرا حينها، وكنت حزيناً للغاية، وقبلها كنت أستعير كاميرات من أصدقائي. مع دخول البطولة، أعارني صديق عزيز واحدة من كاميرتَي تصوير يمتلكهما، وبمقاييس التصوير ومعايير حساباته، لم تكن هذه الكاميرا بعدساتها تصلح أبداً لتصوير الرياضة، لكني كنتُ أحاول بكل ما أوتيت من قوة، لكنني وُفقت بالتغطية الحمد لله، وبشهادة أساتذة المجال كانت صوري من أفضل المجموعات التي وثقت الحدث، وعدّوني ضمن أفضل المصورين بالبطولة من أولها وحتى لحظة الاحتفال بالنهائي، واللقطة الشهيرة لاحتفال اللاعبين بمدربهم. وصورتُ في هذه البطولة رغم ضعف إمكانياتي، 20 مباراة في شهرٍ واحد، وكثيراً ما كنتُ أتنقل بين الملاعب لتغطية مباريات مختلفة في يوم واحد.
كنتُ فخوراً على مدار ذلك الوقت، لكن مع نفسي بين حينٍ وآخر، طاردتني لحظات يأسٍ قاسية، أنني لا أملك المعدات اللازمة للتصوير، وليس معي ما يمكنني من شراء العدسات اللازمة لإخراج أفضل عمل ممكن، وكنتُ أحزن للغاية، لكن أحاول بأقصى طاقتي وبغض النظر عن المتاح بين يدي حتى، وسبحان الله الذي أكرمني "من وسَع"، وفتح لي أبواباً للنجاح من حيث لا أحتسب.
في آخر يوم بالبطولة، اشتريتُ كاميرا حديثة بـ"تحويشة عمري" على مدار السنوات الماضية كلها، لكن لم أكن أمتلك عدسة، فاستعرت من صديقي عدسةً تجاوز الثمانين ألف جنيه مصري في ذلك الوقت، وأكرمني صديقٌ آخر أيضاً بعدسة أخرى بنحو 30 ألف جنيه، واستأجرت كاميرا احتياطية، واستعرت أيضاً عدسةً من شركة كانون، وكنت بين هذه العدسات والكاميرات، أملك قطعةً واحدةً فقط، والبقية قطع مستعارة، لكن من باب السعي للنجاح.
بعد ذلك صورت بطولة أفريقيا للشباب، وصورت العديد من الأحداث في مدن عدة، وصورتُ أحداثاً مأساوية، أشهرها حادث محطة مصر، وكانت الصورة التي التقطتها بفضل الله هي أيقونة ذلك الحدث.
بصيص أمل..
في أحيانٍ كثيرةٍ لا أملك ثمن المواصلات لأسافر من أجل تصوير حدثٍ ما، حينها أستقل قدميّ لأسير في الشوارع القريبة، وبين الأحياء المجاورة، وألتقط ما يرزقني به الله من صور، أصوّر سقوط أمطارٍ غزيرة، عاصفة ترابية، لحظات من الحياة اليومية، كل ما أستطيعه، حتى ولو وقفت على أول الشارع الذي فيه بيتنا، وأصور. المهم، ألا أترك الكاميرا من يدي أبداً.
علمتني هذه التجربة الكثير والكثير، مررت بلحظات فرح كما مررت بلحظات حزن، راودني الأمل بينما يطاردني اليأس، وعلى قدر مرارتها من عامل بمصانع ملابس وأحذية ومطاعم أكل وبائع متجول في السوق أو على عربة فول، وعامل في مصنع كيماويات، فإنها حلوة لي كإنسانٍ مكافحٍ، اسمه "سيد حسن"، ويعمل مصوراً لوكالات عالمية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.