المبالغة في تقدير الذات وحبها بدون حواجز أو معايير قد يؤدي إلى النّرجسية، حيث تصبح أنتَ محور الكون وأنت من له الحق في كل شيء، أنت ولا شيء سواك. أما ضعف تقدير الذات فيؤدي إلى احتقارها وكرهها والحط من قدرها أمام كل من هب ودبّ، وتصبح مُستباحاً لكل من يرى نفسه أفضل منك وله امتيازات لا تملكها فتجد نفسك تركض وراء هوس الكمال حتى لا تسمع أدنى ملاحظة أو نقد، إذ يُعتبر نقد الآخرين لك كارثة عظمى لا تستطيع نسيانها أو تحملها إلا بتجنبها من الأساس ولو بإرهاق نفسك.
ضعف تقديرك لذاتك يجعلك دائم الشّك بها وبقُدُراتها وكل ما تقوم به، تخيل أنك قمت بعمل ما بذلت فيه جهداً جبّاراً وتأكدت أن كل شيء على ما يرام، فأتى صديقك أو زميلك ولاحظ على عملك أو أخبرك أنه ناقص في جانب معين، في حين أنك متأكد من كل شيء، فوراً تبدأ وبدون تردد في الشك في نفسك وعملِك مُصدِّقاً ملاحظة الطرف الآخر دون تردد. تصور معي أن هذا الأمر يتكرر معك مراراً وتكراراً، في كل مرة تشك في نفسك وتجزع للتّحقق من الملاحظة وأنت تتصبّب عرقاً خوفاً وجزعاً أن تكون صحيحة.
فمَا الذي يجعلك تعيش هذه الدوامة دائماً رغم أنك غالباً ما تجد كل شيء كما تركته بعد التحقق؟ إنه ضعف التقدير الذاتي الذي يُدخلك في دائرة التقليل من شأن نفسك وعملك وقدراتك ويجعلك تضغط على نفسك حتى تنجز عملاً مثالياً لا نقص فيه، فتجد نفسك بعيداً عن المثالية وفي نفس الوقت محبطاً خائفاً من الملاحظات والنقد، لظنك أن عملك لا يستحق أن يراه الآخرون، كل هذا يؤدي بك لأمراض نفسية أخطر من ضعف تقدير الذات في حد ذاته، وعلى رأسها الاكتئاب، والوسواس القهري والقلق والأرق وفقدان السيطرة على حياتك، وقد يصل الأمر بك للانتحار. فما الحل للتخلص من دائرة الشك في النفس والإحساس بالدونية ومتاهة المنافسة مع الآخرين؟ وما السبيل لتجنب الوصول إلى خط النهاية، وهو إنهاء حياتك عمداً؟
مؤخراً صَرّحت الشركة المتخصصة في تكنولوجيا الأعصاب (نورالينك) التابعة لرجل الأعمال الأمريكي إيلون ماسك بأنها اخترعت شريحة إلكترونية صغيرة يمكن زرعها في دماغ البشر عن طريق روبوت غاية في التطور، الشريحة يمكنها الاتصال بهاتف ذكي، وقال المتحدث عن الشركة (إيلون ماسك) إن الشريحة لها أدوار مختلفة ومبهرة تُنبِّئ بمستقبل مختلف للبشر، أهمها علاج الخرف ومشاكل السمع والبصر والكثير من المشاكل النفسية.
استوقفني كثيراً أن الشريحة قد يمكنها معالجة مشاكِلنا النفسية التي تعذب أرواحنا فكيف يا تُرى ستستطيع الشريحة وضْع حدّ لآلامنا ومخاوفنا؟ وهل يمكنها تلقائياً تطوير تقديرنا لذاتنا؟ فنصبح بعد زرع الشريحة أشخاصاً واثقين من أنفسنا ومحبين لها، ولا نشك في قدراتنا فقط بزرع تلك الشريحة الصغيرة في أدمغتنا.
ماذا لو استطاعت الشريحة تحريرنا من القلق والاكتئاب والأرق وكل ما يسبب الألم النفسي؟ كيف ستصبح حياتنا؟ هل سنعيش حينها السعادة والكمال الدنيوي المطلق؟ ماذا لو أصبحت ذواتنا وكل ذكرياتنا وخصوصياتنا رهائن بشريحة تتحكم بهما؟ وهل سنصبح جميعاً مجرد جيش تابع للشركة المصنِّعة لا إرادة لنا و لا قرار؟
كل هذه الأسئلة هاجمتني مباشرة بعد رؤية إعلان الشركة المصنِّعة، بغض النظر إن كانت الشريحة العقلية ستتمكن في يوم من الأيام من حل مشاكل الناس النفسية أم لا. أقول لك: ضعف تقديرك لذاتك هو أساس كل أمراضك النفسية من قلق واكتئاب وغيرها، ضعف التقدير الذاتي قد يكون نتيجة أحداث حصلت معك في طفولتك أثّرت على نموك النفسي السوّي، أو ربما والديك باعتبارهما المسؤولين عنك وعن تربيتك حتى أصبحت ناضجاً أو حتى حوادث نفسية تعرضت لها في مرحلة النضج . لكن الحوار المهم الذي عليك أن تخوضه مع نفسك وأنت الآن إنسان ناضج هو: أنت الآن غارق في الكثير من المشاكل النفسية، هل محيطك مسؤول عن حل هذه المشاكل والعقد؟ هل ستغرق في بؤسك تنتظر شريحة (نورالينك) الجديدة لتحل مشاكلك النفسية مُسلِّماً إياها عقلك لتتحكم هي به وتجعلك مجرد تابع لشركة رأسمالية هدفها الربح المادي قبل كل شيء ؟ أم أنك ستُواجه وتُحارب لحل مشاكلك بكل ما أتيح لك من إمكانيات؟
أعلم أنني أكثرت عليك من الكلام الذي قد يبدو لك بدون فائدة، لذا توقف، خذ قسطاً من الراحة انفصل قليلاً عن العالم الخارجي والضجيج المحيط بك في البيت والشارع والعمل ومواقع التواصل الاجتماعي، الآن وليس غداً، خذ موعداً جادّاً مع نفسك وتوقف عن الهرب منها إلى العمل أو أي نشاط آخر، واجهها بكل شجاعة وتعرف عليها مهما بدت لك سيئة ولا تستحق أي شيء في هذه الحياة، فلا يمكنك معالجة أي مرض دون اكتشافه وقبول وجوده في حياتك كحقيقة يجب التعامل معها.
القرار قرارك وحدك، إما الهرب أو المواجهة مهما كانت مُؤلمة. ابحث عن مواطن الخلل وعن الأسباب وأسباب الأسباب، اقرأ كتباً لأطباء معترف بهم، وابدأ استكشاف نفسك التي هربت منها لسنوات، وإن استعصى الأمر، استشر طبيباً مختصاً في الأمراض النفسية، وعالج عقدك النفسية وضعف تقديرك لذاتك من الجذور. تذكّر أن من سمات الحياة الدنيا النقص وأن الإنسان يعيش في كبد، اقبل نفسك كما أنت، فالقَبول هو بداية الإصلاح والتزكية، ضع نُصب عينيك قوله تعالى: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" (سورة العنكبوت)، وأحسن لنفسك، للأمانة التي استأمنك عليها ربّك، فنحن خُلقننا لنحارب ونجاهد من أجل تزكية أنفسنا، وتذكر أنه مهما تقدمت التكنولوجيا والعلم، لن تَسقط مسؤوليتنا تجاه ذواتنا، فهل ستجاهد وتحارب حتى النفس الأخير؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.