قرّرت الصين قتله فمات 45 مليون مواطن.. طائر الدوري الذي يؤثر على حياتنا اليومية دون أن ندري

عربي بوست
تم النشر: 2021/03/18 الساعة 10:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/03/20 الساعة 13:53 بتوقيت غرينتش

تسمع صوته كل صباح وقد تتفاءل به، يوسخ النوافذ وأطراف الشرفات فتتململ منه ربات البيوت، إنه المخلوق الذي قد تكون جاءتك رغبة جامحة في إمساكه في صغرك أو حتى في كبرك لكنه يهرب بسرعة، وإن تلبسك الفضول لإمساكه ونقحت عليك غريزة الصياد التي نضمرها في داخلنا، فتقوم بتتبع عشه أو نصب الفخاخ له لكي تمسكه، وبهذا يكون مصيره في ثلاث:

1.  إما الموت في قفص بعد أيام معدودة، لأنه لا يعيش فيه.

2. أو تطيره بعد أن رويت فضولك بمشاهدته وبعدها تقارنه بغيره من الطيور الأخرى التي تمتلك ألواناً زاهية، فهنا يتملكك سؤال: "ما حاجتي باقتناء طائر لونه كألوان مدننا ألوانه غامقة ويغلب عليه رمادي وفيه بعض البياض؟"، أما صوته فهو تغريد متقطع والمقارنة بغيره لا تصح ليس لأن تغريده متقطع فحسب بل لأن صوته عبارة عن "خلفية صوتية لحياتنا اليومية" التي قد تكون بائسة، ثم إن قيمته الاقتصادية منخفضة وذلك لأنه يكسر مبدأ ندرة بوجوده الكثيف لدينا البعيد عنا "لأنه يهرب بسرعة"، ولأنه متوفر بكثرة فصوته كما هو "يكسر مبدأ الندرة".

3.  وإما تحيي غريزة الصياد بداخلك فتستعجل قتله بدل الموت البطيء، وهنا توقن بأن غريزة الصياد التي هدفها البقاء ها قد تحولت إلى عبث وتخريب، فما حاجتك إلى بعض كيلوغرامات من لحم في ذلك الجسد النحيل في زمن الاستهلاك والوفرة، أو لربما لحاجة نفسية في داخلك عليك أن تسأل الطبيب النفسي عنها.

القفص، (زوم الكاميرا)، والموت هي الحالات الوحيدة التي تستطيع أن ترى بها طيرنا عن قرب بعينك المجردة في الواقع، وفي حالة الموت يكون ملقى على الأرض منكمش القدمين من أثر نوبة الموت منفوش الريش.

هل عرفت ما هو؟ إنه عصفور الدوري، الحاضر الغائب في حياتنا.

هذا الكائن الذي تتجاهله أو تعتبره شيئاً ثانوياً موجداً في حياتك يحمل تعقيداً كبيراً متشابكاً معنا ومع أزمتنا الوجودية ومع صراعاتنا الأيديولوجية، ولتعرف أكثر عنه عليك أن تكمل المقال.

الدوري رمزٌ لطلب الرزق

في أحد أيامي المدرسية وتحديداً في حصة التربية الإسلامية تلا المدرس علينا الحديث النبوي:

 (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً)  

والحديث يعني أن على الإنسان التوكل على الله في كل شيء حتى ينال رزقه،كما الطير الذي يكون في أول نهاره جائعاً يبحث عن الطعام وفي آخره شبعاناً.

لقد أعطاني هذا الحديث درساً في الحياة وتأملاً فيها ودعاني إلى النظر من شباك الغرفة المدرسية إلى خارجه بحثاً عن طائر ليجسد إسقاطاً نبوياً، فكان هو دوري المتواجد بكثرة مثالاً جيداً في توكل على الله في أول النهار وآخره، ودعاني هذا الحديث إلى نبذ أي شيء يؤجل ويمنع عني طلب الرزق ولكن بعد أن أنهي المدرسة والجامعة..

ما الشيء الذي يمنعنا كبشر من طلب الرزق والعمل مثل دوري وغيره؟ إنهم البشر أنفسهم، إن للإنسان قدرة على تخيل وإنشاء نظم وأشكال إدارية تعيق طلب الرزق منها المادية ومنها النفسية، والفرق بينك وبين الدوري أنه على سجيته بينما أنت تتأثر بتلك  النظم السياسية والاجتماعية التي تهيمن عليها فئات بشرية، وأنت هنا مجبور على الطاعة والتماشي مع هذه الأنظمة وفق الحتمية الاجتماعية، وإلا سوف تكون خارج "السرب" البشري وتعاني من الاغتراب.

ولكن، كيف تعيق السيطرة السياسية/ الاجتماعية طلب الرزق؟

إليك الجواب، مادياً عن طريق الاحتكار وعمل تفاوت طبقي، أو نفسياً عن طريق تحقير بعض المهن والحط منها اجتماعياً وهذا يسبب إضعاف "الأنا" الشخصية (Ego) وذلك لعدم توافقها مع "الأنا العليا" والتي هي قيم المجتمع حسب عالم النفس سيغموند فريد، فتنتج شخصاً مطرباً نفسياً ولكن بنسب متفاوتة، كما تعمل تلك السيطرة نفسياً عن طريق تغيير المبادئ وإحلال مبادئ أخرى مكانها، ومنها "طلب الرزق" كما تناوله الحديث النبوي في سياق دين الإسلام الذي يدعو للزهد والاكتفاء بالحاجة، وهذا ما يدعو له الحديث "الرزق اليومي الدائم"، وهذا يتعارض مع المطالب الحياة اليومية في الوقت الحالي وذلك من خلال ما يتم ترسيخه في الإعلام عن الشخصية التي تعيش حياة سعيدة وفارهة من خلال الترويج لنمط الاستهلاك الفرداني، كما أن الفكرة فردانية تناقض الرؤية الإسلامية للرزق، فهنالك الكثير من الآيات التي تدعو إلى الزكاة وتصدق وتضامن الاجتماعي، وهي أكثر بكثير من الآيات التي تتحدث عن لباس المرأة هو غالباً ما نتكلم عنه أكثر من غيره!

إذن فليتحسس رجال الدين رؤوسهم؛ لأنهم يستطيعون الحديث عن لباس المرأة لأنه واقع تحت سيطرتهم ولكنهم لا يستطيعون الحديث عن تغيير نظام السوق العالمية لأنهم تحت سيطرته كما غيرهم. 

ماو تسي تونغ والدوري

إن السيطرة التي تعرقل البشر لطلب الرزق هي هدف منشود لهم، وهذه السيطرة دفعت الزعيم الصيني ماو تسي تونغ لاتخاذ قرار بقتل أربع آفات تضر المحاصيل، والآفات الأربع هي: الجرذان، والذباب، والبعوض، وصديقنا عصفور الدوري، وذلك لتحقيق خطة "القفزة الكبرى إلى الأمام" التي تهدف إلى تحويل الشعب الصيني من مجتمع زراعي إلى صناعي خلال فترة قصيرة، التي تم تفسيرها ضمن النظرة الماركسية لوجوب سيطرة الإنسان على الطبيعة وصراعه معها.

والسبب وراء اختيار هؤلاء الأربع هو أن البعوض ينقل الملاريا المؤدية للموت، ما يقلل الأيدي العاملة، وبالتالي يقل الإنتاج، والجرذان تنقل الطاعون الذي يقضي على مدن بأكملها؛ لذا وجب التخلص منه لنفس السبب، أما الذباب فوجب قتله لأنه مزعج، وأما الدوري فحاله كحال أغلب من يعيش في الصين جوعى يبحثون عن طعام، وغذاؤهم الرئيسي هو الحبوب المزروعة في الحقول والفواكه، فقد قدر العلماء التابعون للحكومة الصينية حينها أن العصفور الواحد يتناول ما يقارب 4 كيلوغرامات من الحبوب سنوياً، وبالتالي كان من البديهي قتل العصافير، فكلما مات عصفور واحد توفر للصينيين 4 كيلوغرامات من الحبوب كل عام، وإذا قتلوا 250 عصفوراً فهذا 1000 كيلوغرام إضافي من الحبوب كل عام![1]

وفعلاً بدأت خطة ماو تنفذ على الأرض وبدأ الناس باصطياد أعداد كبيرة من طيور، ولم تكتفِ الحكومة الصينية بإعطاء الأوامر لقتله بل قامت بتقديم دعاية مفادها أن طائر الدوري هو رمز للرأسمالية وأحد الموانع لإقامة الصين الاشتراكية، ووسط هذا التحريض ومطر طيور الدوري التي تنزل من السماء، حصلت كارثة ليست فقط بحق طيور الدوري، وإنما بحق البشر الذين قتلوها، فبعد الحادثة مات حوالي 45 مليون صيني، وذلك بسبب اختلال التوازن البيئي الذي فقد سلسلة من السلسلة الغذائية؛ فقد كان عصفور الدوري لا يتغذى فقط على الحبوب بل كان يتغذى على الحشرات، وبعد قتل العصافير تكاثرت أسراب الحشرات الآكلة للمحاصيل التي أصبحت تلتهم مزارع بأكملها، ما أدى إلى نقص ناتج الزراعة من الحبوب بدلاً من زيادته، فاضطرت الحكومة إلى إيقاف الحملة على العصافير واستبدلتها بالصراصير، ولكن ذلك حصل بعد مجاعة.

وبعد سنتين من الحادثة أدركت القيادة الصينية حجم الكارثة فقامت باستيراد عصافير الدوري من الاتحاد السوفييتي، وبذلك عرفت الصين مدى أهمية ذلك الطائر.

ليس الغراب وحده من يعلّمنا

(فبعث اللّه غراباً يبْحث في الأرْض ليريه كيْف يواري سوْأة أخيه قال يا ويْلتا أعجزْت أنْ أكون مثْل هذا الْغراب فأواري سوْأة أخي فأصْبح منْ النّادمين)

في العودة إلى تراثنا الإسلامي نجد مثالاً على تعلّم البشر درساً من الطيور بعد أن قتل قابيل أخوه  هابيل، وذلك من خلال الغراب الذي فعل فعلة قابيل، حيث قتل غراباً آخر، ولكنه عرف كيف يواري السوأة من خلال دفنه، ولكن ليس قابيل وحده الذي عجز أن يكون مثل الغراب بل كلنا ولكن هذه المرة مع الدوري.

هذا الطائر يعيش حياة كاملة منذ أن تفقس بيضته ويطير خارج عشه، يبدأ يبحث عن الطعام وفي مواسم التزاوج يبني عشه ويعتني بفراخه، إنه يحيا حياته كما هي ويفعل كل شيء كأنه تحصيل حاصل ليس الأمر معقداً، بالنسبة له لا يهتم لأمر أزمة المساكن، ولا تصبح المسائل الحيوية معقدة لديه، وإن شح الطعام في منطقة يطير إلى أخرى فهو لا يعرف الحدود، أما أنت فقد تصل لسن الثلاثين ولم تبنِ عشاً، أو قد تكون ترساً في آلة معطلة.

وهنا أسمع سؤالاً استنكارياً: هل نحن البشر خلقنا فقط لنأكل ونتزاوج فقط؟ أليس لدينا مهام أسمى من ذلك؟

وأنا سأرد عليك بسؤال استنكاري أيضاً: هل يوجد هنالك أسمى من أن نجد طعام كل يوم ونبحث عن شريك ومسكن ونعيش وفق ذلك بسلام واستقرار؟ ها أنا أسمعك الآن تصرّ على أنه يوجد، وأنا أصر على سؤالي ماذا يوجد غير ذلك؟ أنا أقول لك ماذا يوجد غير ذلك فهم تعقيدات الحياة التي صنعها البشر أنفسهم.

دورة الحياة الكاملة ليس الدرس الوحيد الذي نتعلمه من طائر الدوري، فهنالك شيء آخر، هو ضآلة حجمه، إن الحجم الصغير لطائر الدوري يجعلنا نتأمل كثيراً في حجمنا الذي هو أضعاف حجم الدوري، ولكن إذا ما قارنا حجمنا بالكون فسيكون صغير جداً فعلينا أن ندرك حجمنا، الدوري يبني عشه مما يتوفر من المواد في محيطه وكل الأعشاش سواسية أما العالم فكله مشاع بنسبة له، أما نحن فنبني بيوتاً مما تملي علينا طبقتنا الاجتماعية غير المتساوية، والعالم مليء بالحدود، نحن لا ندرك حجمنا كما الدوري فنبني صروحاً تحتل حيزاً مكانياً زائداً على حاجتنا لفرض الهيبة والقوة، انظر إلى مقراتنا الرئاسية مثلاً، نحن لا ندرك حجمنا الضئيل فنتوسع نصنع الأسلحة نسيطر ونخترع أنظمة للتحكم للسيطرة ،وبهذا نقضي على الكثير من البشر لم يعيشوا دورةً كاملة، ومن يعش في الغالب لا يستطيع بلوغ الدورة الكاملة أو تكون دورة كاملة مشوهة؛ لأن هذا العصر يسمّى عصر القلق، اقرأ لمشيل فوكو وستعرف السبب.

مهلاً!

هذا الطائر الذي أثنينا عليه ما هو إلا تجسيد لمقولة البقاء للأقوى اللاأخلاقية، إنه داروني اجتماعي، هل سألت نفسك: لماذا هذا الطائر هو الذي يكتسح مددنا من فئة العصافير؟

ذلك لسببين: الأول يحمل نزعة عدائية تجاه العصافير الأخرى فهو يقوم بطردها ويحل محلها.

والسبب الثاني هو تكيف الطائر مع ظروف التجمعات البشرية، حيث وجد العلماء أن الدوري الذي يعيش بجانب البشر يختلف عن الدوري "البري"، وذلك لتغير جيناته بسبب الطعام، حيث أصبح الطائر يتغذى على طعام فيه نسبة كبيرة من النشا، ما أدى لتكيف جسده وبالأخص جمجمته لتصبح أكثر متانة وقوة، وبهذا أصبح طائر الدوري "المنزلي" يعتمد بوجوده على تجمعات البشرية، وهذا يعطي تفسيراً لماذا نراه أكثر من الطيور الأخرى[2]، فهو كما قال العلماء إنه مثل غيره من الكائنات التي اعتاشت على نمط الحياة البشري من خلال تطفل مثل القمل والسيبان، أو من خلال الفضلات مثل الجرذان، أما الدوري فقد تعايش بسبب الثورة الزراعية[3] التي جعلت البشر يستنثون البذور حيث أصبحت أكبر قيمة للبشر وأكثر صلابة بنسبة للطيور الأخرى، ولكن الدوري استطاع التكيف وأكل هذه البذور، هذا بالإضافة إلى قدرته على التعشيش في شقوق الأبنية والعمارات.

الدرس الأخير

في طبيعة الغناء يوجد تنوع حيوي وتعدد كبير لكافة أنواع الطيور والحيوانات، أما في البيئة الاصطناعية فينتهي تعدد وتنوع لصالح معيار واحد، وبما أن الطبيعة هي الأصل فهي الأساس، فنحن يجب أن نحاكي الطبيعة مع معيار أخلاقي الذي يميزنا عن بقية الحيوانات.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد جودات
كاتب صحفي فلسطيني
كاتب صحفي فلسطيني
تحميل المزيد