صغيرتي رنا.. ذلك ما تَدين لنا به الغربة

عربي بوست
تم النشر: 2021/03/18 الساعة 09:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/03/18 الساعة 11:04 بتوقيت غرينتش
غربة

ثماني سنوات يا رنا، صار عمرك الصغير الكبير، سنواتك الضئيلة لأي أحد ينظر إليك من بعيد، والعظيمة عندي حين أنظر إليك من قرب شديد، أيامك القليلة بالنسبة لمن يراقبك من الأعلى، والكثيرة حين أتأملك أنا من الداخل، ثماني سنوات بأسنانك الباقية والمخلوعة، بملامحك الهادئة وصوتك المنفعل، بوسامتك التي علاماتها فوق خديك لا تفارقهما، وبأهدابك التي ترتاح فوق عينيك كلما أغمضتهما، رموشك التي تشرف على وجهك كلما فتحتهما.

ثماني سنوات، ولا أراك إلا في عمر الثالثة، في آخر صورةٍ حقيقية لك معي، في آخر ذكرى لها طعم ولون ورائحة، ليست عبر نافذة في مكالمة فيديو، ولا بصوتٍ مبتورٍ في اتصال صوتيّ، وإنما كنت أنت أنت، بشحمك ولحمك، باسمك ورسمك، بعينيك الواسعتين وأنفاسك القصيرة، تتعلقين بعنقي، ولا تعلمين إلى أين أذهب.

كان منتهى معلوماتك عند نهاية الشارع، كل عالمك محدود بهذه الجدران، وبتلك البيوت المجاورة، لا تعرفين معنى المطار ولا الطائرة، لا تفكرين بشأن المغادرة، ترين بكاء ماما لكنك لا تفهمينه، تحاولين الاهتمام لكن الكارتون يشغلك، إلى أين أذهب يعني؟ هل سأطير؟ لن أطير، هذا ما تتخيلينه، لكن الحقيقة أنني حرفياً "طِرت"، من بيتنا إلى بيوتٍ كثيرة فيما بعد، لن يصير أيٌّ منها بيتي ولو تملكتُه بعد ثلاثين عاماً.

ثماني سنوات، كبرتِ، صار كلامك أكثر وضوحاً، أصبحت لماضتُك حاضرةً بقوة، سرعة بديهتك تدهشنا، أضحت يدك أخفّ في حمل القلم، في خطك الحلو، ورسماتك الجميلة، وبتِّ تضيفين لكل شيء معنى، رسمة العروسة صارت فيها فتاة تضحك، والعريس له يدٌ حنون يقبض على يدها، ترسمين بيتاً له نوافذ، وشجرة فيما ثمار، وعائلة فيها أنا، لكن بقلمٍ باهتٍ عن الطبيعي، كأنه هذا هو وجودي الذي ترَينه، حاضر كطيفٍ، كضيف، ليس هذا الوجود الذي كنتِ تعرفينه.

كبرتِ، وأحلامك على بساطتها كبيرة، يحلم الأطفال بشارعٍ، وحديقةٍ، وملاهٍ، وبلادٍ، وتحلمين أنت ببيت، يحلمون بأصدقاء وأشباح وأبطال وشخصيات كارتون، وتحلمين بأبٍ وأخٍ لا شيء أكثر، قنوعة في أمانيك، أكبر شيء فيها هو فستان قصير أبيض، وأنا، تريدين الفستان لكن بشرط خاص، بسيط ومعقد، أن أكون أنا معك وأنا أحضره، تغوص قبضتك الصغيرة في كفي الكبيرة، نركب الحافلة، ونذهب لنشتري ما نريده، أو لا نشتري، الفكرة في كلمة "نذهب" هذه النون التي تعبر عن "نحن".

ثماني سنوات هي عمرك نطرح منها ثلاث سنوات هي عمرك معي جزئياً، يخرج الناتج خمس سنوات هي مجموع غربتي الكاملة في البعد عنك حتى الآن، ولا يمهلني الزمان الوقت ولا الفرصة ولا العمر لنعيد ما فات، هل تمنح الدنيا إعادةً للذين تخلّفوا عن بعض فصولها؟ لا أعرف، لكن ما أعرفه جيداً هو أن أول سنٍّ من أسنانك سقطت وأنا بعيد، وأول رسمةٍ رسمتها وأنا بعيد، وأول يومٍ في المدرسة وأنا بعيد، وأول مرضٍ لك وأنا بعيد، وأول كل شيء كان فيه كلمة "أول" وأنا بعيد، هل يعود هذا؟ لن يعود، ربما في أحسن الأحوال سأحضر جلسات لك متعلقة بالأسنان، لكنها لن تكون سقوط السن لأولى، ولا نموّ الضرس الأول.

تفاصيل.. تفاصيل.. تفاصيل، هذا ما يوجِع يا شقيقتي، شقيقتي بمعنى أختي، وشقيقتي بمعنى الصداع النصفيّ الذي لا يفارق رأسي، وذلك الزنّ الذي لا ينتهي أبداً، متى تعود؟ وأودّ لو أجيب، وأودّ أن أحجز تذكرة للعودة، وأودّ لو كانت تذكرتي الأولى ذهاباً وإياباً، وأودّ لو سقط جواز السفر في طريقي للمطار حينها، لكن ذلك ما لم يحدث، لأن قدر الله ألّا يحدث إلا ما يريده لنا.

ثماني سنوات وصرتِ أنثى صغيرة، سيدة في جسم طفلة، تغار وتخجل وتحزن وتفرح وتتدلل وتزعل، وتختبرين مكانتك عندي كل مكالمة، تحبني أكثر أم….؟ وتعدين في النقاط كل مرةٍ أحد الذين أحبهم أيضاً، وثماني سنوات أخرى ويقولون "صارت عروسة"، تجتهدين لتدخلي الكلية التي تريدينها، وثمانٍ أخرى بعدها ويقولون "كبرت البنّوتة كبرت ست الكل – صار بدها تتزوّج تتركنا وتفِلّ".

وأنا عالق في العشرينات، وعمر ثانٍ مثل عمري ويعتلي الشيب رأسي، وعمر ثالث ويقولون "استغفروا لأخيكم فإنه الآن يُسأَل"، وكم في عمر المرء من سعةٍ ليحمل أمثال عمره مرتين؟ وكم هي السعة في صدره ليحمل كبَرك مرتين من دونه؟ وكم هو العمر الباقي أمام الماضي؟ وماذا يحمل لنا المستقبل القريب الغريب؟ وماذا يكون المجهول إن لم يكن ما أعيشه الآن هو المجهول شخصياً؟

أسئلة مزدحمة يا رنا، وعجيبٌ أن اسمك معناه "الشيء شديد الجمال الذي يُنظَر إليه"، أما نصفه الأول فأبصم عليه بالعشرة يا أيها الشيء شديد الجمال، وأما النصف الثاني فهو الوجع نفسه يا أيها الشيء الذي لا أستطيع النظر إليه، هنا مربط الفرس وذروة الألم، أن اسمك حتى مبتورٌ في فمي، أن معناه ليس كاملاً عندي، أني أناديك ولا أطيق ألف المدّ، لأنها تلقيني كل مرةٍ في قاع الهاوية، تائهاَ بلا دليل.

ذلك ما تَدين لنا به الغربة يا عصفورتي الصغيرة، ذلك الدين الذي لا يُعلم له أول من آخِر، لا يَعرف مقداره إلا من ترك داره، ولا يدخل بابه إلا من غادر أحبابه، ولا يدفع ضريبته بانتظام كل أول ليلٍ وأول نهارٍ إلا ذلك الغريب المبعَد، حامل لقب الأجنبي دائماً، ضيّق الضلوع ومسجون المشاعر، ورغم سعة بلاد الله فإنها أضيَق في صدره من أن يفتح ذراعيه على مصراعيهما، فيجدك في حضنه بلا حواجز، وأقسى من أن يقبلك على خدّك قبلةً تشعرين بها فعلاً، وليست في الهواء كما يلقيها كل مرةٍ عبر الأقمار الصناعية.

ثماني سنوات صارت عمرك، أحجز خمساً منها لي، هي عُمر وجعي. فعمرك عندي الآن ثلاث سنوات في نفسي، وخمس سنوات في نفسك مني، ولن أعترف أبداً برقم ثمانية، وإلى أن نلتقي، سأظل أعد عمرك ثلاثة أعوام، أما بقية السنوات فستظل عمر وجعي الذي يكبر.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يوسف الدموكي
كاتب وصحفي مصري
كاتب وصحفي مصري، تخرج في كلية الإعلام، قسم التلفزيون والسينما، يعمل بالصحافة وكتابة المحتوى والسكريبت، نُشر له 3 كتب مطبوعة، وأكثر من 200 مقال.
تحميل المزيد