في بيتنا فتاة

عربي بوست
تم النشر: 2019/05/26 الساعة 14:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/05/28 الساعة 11:44 بتوقيت غرينتش
في بيتِنا فتاة، في فتاتِنا بيت.

كان بيتُنا على المودة التي تملأه ينقصه شيءٌ ما، ثلاثة ذكورٍ يكبرون كل صباح، وسيدة تخدمهم كأنها تعمل بالأجرة عندهم، وأبٌ لا يرى البيتَ إلا في الظلام لأنه يجلب الضي من الشروق حتى الغروب كل يوم، وأصواتٌ تعلو وتختلف ثم تخرس مرةً واحدةً لأنه -أعانه الله- نائم بعد يومٍ طويل. كان البيتُ ملوَّناً، أجل، لكن بلونٍ واحد؛ لون "الخناشير"، الذين كلما نبتت تحت أنف أحدهم شعرةٌ جديدة بدأ يناقش الأبوين في زيادة مصروفه، ويسألهما عن حقِّه في التصويت، وتتساءل أمي عن حقها في "الصويط".

كانت الحالةُ العامةُ توحي بتعطّش كاملٍ إلى التغيير، بدلاً من التحايل الذي تصنعه أمي مع كل واحدٍ منا أنا وإخوتي، فتستقبله من رحِمها على أنه أنثى راضيةً مطمئنة وبكل اقتناع، يختارون جميعاً الاسمَ، ثم تقرر هي وحدها أن تُتبع اسمَه المذكر بتاءٍ مربوطة، وتلاعبه بقولها "يا بت" وهو ينظر إليها لا يعترض على قضاء الله، حتى إذا كبر وعرف كيف يزمجر ويهد البيت ويقلب الدنيا رأساً على عقب، لم يقدر على التعقيب في كل مرةٍ تناديه فيها أمي باسمٍ مؤنث؛ لأنه يعرف أن تلك هي أكثر لحظاتها "رَوَقاناً". وكنتُ أنا ابنها البكر -وفي أقوالٍ أخرى تُنسَب إليها وحدها "ابنتها الكبرى"- لها في اسمي وظيفته الطبيعية أمام الناس، أما مع نفسها فلها في مشتقات اسمي مآرب أخرى تناديني بها حتى الآن، وحتى ينشق القمر.

بعد صراعٍ مع القدَر والاعتراض الموؤود بالرضا، أراد الله أن ينصرنا؛ إذ بعد كثيرٍ من غبار المعارك رُزق البيت بقارورةِ عطر تُلطّف الجو، وقارورة ماءٍ تروي الجفاف الذي خلَّفناه نحن الذكور. جاءت، فخشعت الأصواتُ، وهدأت النفوس، وتصافحت القلوب، وتصالحت العيون، وبدأ يتسرَّبُ إلينا شعورٌ جديد، إحساسٌ غير الأمان الذي في أنفاس أبي، وغير الحنان الذي في أنفاس أمي. لا أعلم أكان الدفء؟ ربما، لم يكن وحده بالتأكيد وإنما شيءٌ ضمن أشياء كثيرة شعرنا بها في أنفاس أختي؛ الضيف الجديد الذي أثبت من أول يومٍ ملكيتَه في البيت أكثر من ساكنيه القدامى، وأثبت من أول يومٍ مَلَكيّته فكلنا رهن إشارته، وأثبت من أول يومٍ ملائكيّته، فكلنا عفاريت إلى جوار نوره القدسي، وصار بخيمتنا التي تسترنا لننام الليل قنديلٌ يؤنسنا، عرَّفَنا كيف الليل يُسهر.

حضرت السيدة "رنا"، فلم نشعر أنَّ أحداً اختار لها اسمها، وإنما حضرت باسمِها وجسمها ورسمها في مكانِها وزمانها، كأننا عشنا عشرين عاماً ننتظرها فقط، كمهاويس النجوم، ننتظر أول صرخةٍ لها، وأول جلسة لها، وأول ضحكةٍ لها، وأول خطوةٍ لها، إلى أن أرادت السيرَ وبدأت المَسيرَ، فأُذن لنا -نحن أسرى الحرب أو أسرى الحب- بالحركة. و "رنا" اسماً هي الشيء شديد الجمال الذي يُنظر إليه، و "رنا" فعلاً، هو فعل النظر في حب، وفعل المراقبة في هوى وإعجابٍ وإطراقِ سمعٍ وإعمال بصر، فكان كل شيءٍ يُثبت بدليلٍ لا ريب فيه أنها صاحبة الدار، وأننا كنا حرَّاسها إلى أن يصل موكبها المبارك.

أقول: في بيتِنا فتاة، اكتشَف أبي -بعد عشرين عاماً من زواجِه وإنجابه ثلاثةَ رجالٍ خَطَّ الزمانُ تحت أنوفهم جميعاً شوارب الذكورةِ وإن اختلفت كثافتُها- أنَّه لم يُنجب قبلها أحداً، كأننا أبناؤه المفروضون عليه، وكأنَّها وحدَها التي اختارَها، إذ للبنتِ في ديارِنا قدسية خاصة؛ كأنها النسخة الحاضرة من مريم العذراء؛ صِدِّيقة لا أحد يجرؤ على تكذيبها، محصّنة لا أحد يجرؤ على لمسها، قدِّيسة والكل في منزلةٍ أدنى منها، مدلَّلة لا يجوز تعنيفها، وإن حادَت فهي تعرف طريق العودةِ جيداً، نرقبُها ونرجوها بعيوننا لا أكثر، فتقرها، ولا ترد آمالَنا فيها خائبة.

هنَّ المؤنسات، أو قل: المؤسِّسات؛ أعمدة البيوت وجدرانها وأسسها وأسقفها، وما نحن -الرجال- إلا سكان عوالِمهن التي شِدنها بالجمال والجلال والكمال. وفي بيتنا أيضاً تعلمنا أنَّ ما يجوز بين الأخوين من "هزار البوابّين" لا يجوز بين الأخ والأخت، وإن خرجنا على هذا النظام من وراء أبي وأمي، فوِشايةٌ واحدةٌ من "الست هانم" كفيلة أن تشعل في البيت ناراً لا يُطفئها إلا الله، لأن "أختك يا ولَد" أضعف منك، وأختك يا ولد أنت حِماها، و "أختُكَ يا ولد…" بلا تكملة لما بعدها كانت كفيلةً بالرسائل كلها.

في بيتِنا فتاة، في فتاتِنا بيت.


رنا أختي في نوم عميق بين أحضاني، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أنام فيها في سيارة، أنا الذي كنت في حضنها.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يوسف الدموكي
كاتب وصحفي مصري
كاتب وصحفي مصري، تخرج في كلية الإعلام، قسم التلفزيون والسينما، يعمل بالصحافة وكتابة المحتوى والسكريبت، نُشر له 3 كتب مطبوعة، وأكثر من 200 مقال.
تحميل المزيد