قد يظن البعيدون عن عالم الأعمال أن العنصر الذي يحتاجه المشروع الناجح هو رأس المال أو معرفة صاحب المشروع بالجوانب الفنية فيما يقدمه المشروع من منتجات أو خدمات، أو أن المشروع الناجح يحتاج إلى عناصر خارقة لا يمتلكها كل الناس ليصبحوا به أصحاب مشاريع ناجحة، في حين أن ما يحتاجه المشروع الناجح هو عنصر أكثر بساطة من هذه العناصر وهو عنصر يمتلكه كل الناس بلا شك، ولكنهم قد لا يعرفون أنه موجود لديهم بالفعل.
سأعرض هذا العنصر من خلال حكاية "أم عاطف" في هذا المقال، وسأخبرك كيف تمتلك هذا العنصر في المقال القادم، إن شاء الله.
"عاطف ابن أُم عاطف"
أم عاطف هي أمٌّ بسيطة تمتلك ملكتين أساسيتين تمتلكهما كل أم أصيلة، أول ملكة هي القلب الطيب، التي أسميها الحاسة السابعة، والتي تشعر بظروف كل من حولها، تفرح لفرحهم إن أعلنوه وتحزن لهمهم، وإن لم يعلنوه، والعنصر الثاني هو حرفة الطبخ البلدي.
أم عاطف "حرِّيفة" في إعداد طبق محشي ورق العنب، وتشهد لها معدة عاطف وإخوته وكل من أكرمته الأقدار بالانضمام إلى مائدتهم وقد يشهد لها الجيران أيضاً خاصة هؤلاء الذين يستطيعون تذوق ما تشمه أنوفهم.
في يوم من الأيام قالت أم عاطف لعاطف: "خُد يا عاطف طبق المحشي دا ودِّيه لأم ياسمين".
أم ياسمين هي أحدث من انضم لرابط الجيران المقدس في هذا المجتمع المصري، مع ذلك فقد انتسبت لهذا الشرف منذ 7 سنوات تقريباً، في هذا الحي القديم من أحياء القاهرة، ولحداثة انضمامها فقد انطبق عليها ما ينطبق على أغلب البيوت في العصر الحديث.
فزوجها بنى عش الزوجية بشق الأنفس وظروفهم المادية كانت تحتاج إلى مساعدتها إياه في تكاليف العيش، فكانت أم ياسمين زوجة عاملة، تستيقظ كل يوم تسارع في تحضير فطور زوجها وابنتها، ثم توقظهما، ياسمين للحضانة وزوجها للعمل، يوصلان الطفلة التي لم تبلغ الست سنوات للحضانة، ثم يسرع كل منهما للحاق بساعة حضوره الصباحية في العمل، كي لا يزداد الطين بلة.
بعد تسع ساعات في العمل الشاق وساعة أخرى في المواصلات، تعود أم ياسمين مسرعة لتحضر طعام الغداء، لياسمين ابنتها، ولزوجها الذي يصطحب الصغيرة من الحضانة في عودته.
بعد هذه النبذة الخاطفة عن "أم ياسمين" وأسرتها، نعود بسرعة إلى ما يدور في شقة أم عاطف.
عاطف وورق العنب
حين أخذ عاطف طبق ورق العنب ليوصله لأم ياسمين، شعر ببرودة الطبق بين يديه، وقال باستغراب: "لكن الطبق بارد يا أمي"، وذلك طِبقاً لما يعرفه عن الحال المثالي لطبق ورق العنب المصري، الذي لا يُلتَهم إلا ساخناً.
قالت أمه: "لأننا لا نعرف متى ستحضّره لزوجها يا عاطف" وأكملت: "وبمجرد أن تضعه أم ياسمين في حلة سينضج ويدفئ بيتها كله تماماً كما أحضّره لك أنت وإخوتك".
انتظرَ عاطف حتى الساعة الثانية والنصف ظهراً كما نصحته أمه من معرفتها بموعد عودة أم ياسمين من العمل، ونزل وطرق الباب ووقف على بعد خطوات من الباب كما ربته أمه، وبمجرد ما فتحت أم ياسمين الباب حشرج صوته وقال: "السلام عليكم أم ياسمين، بعثت لك أمي هذا الطبق".
"شكراً شكراً.. مكانش له لازمة التعب دا والله.. شكراً يا عاطف.. اشكر ماما"، قالتها بحرج، كعادة فتيات هذا الجيل حين ترسَل لهم أطباق الطعام هدايا من جيرانهم ولا يعرفون حينها كيف يتصرفون.
سارع عاطف بالصعود وطمأن أمه بوصول الهدية.
أبو ياسمين
هذا الزوج الشاب المطحون اعتاد أن يدخل بيته مصطحباً ابنته ياسمين منتظراً غداءً بسيطاً نظراً للحمل الذي تتحمله زوجته، ومساحة الوقت الضيقة التي تمتلكها لإعداد الغداء، والذي تحترفه زوجته في هذه الظروف كحال نظيراتها هو "دويتّو" المكرونة والبانيه.
قد تغير له في نوع المكرونة أحياناً، مرة حلقات، مرة إسباجيتي، مرة حلزونة، وأحياناً تغير لون الصلصة من الأحمر للأبيض، ولكن العنوان واحد. في هذا اليوم فوجئ برائحة ورق العنب ودفئه يفوح من المطبخ بمجرد أن فتح الباب وأخرج المفتاح منه، حتى إنه تأخر هذه المرة في إغلاق الباب وراءه كعادته، كأنه شك أنه دخل بيتاً آخر غير بيته.
.في نهاية هذا اليوم حدثت الشرارة
أم ياسمين تصوّر طبق أم عاطف
صورت أم ياسمين الطبق وأنزلته على منصات التواصل الاجتماعي ولاقى قبولاً واسعاً لعاطفة المصريين وعشقهم لهذه المواقف الأصيلة، كان المنشور بعنوان "جمال الجيرة المصرية وجمال أكل أم عاطف".
وجد عاطف نفسه مذكوراً في تعليق على هذا المنشور من أخته والتي كانت صديقة لأم ياسمين على منصة التواصل، وتعجب من حجم التفاعل على المنشور، وتعجب أكثر من كثرة السيدات اللاتي يسألن عن كيفية الوصول لأم عاطف لتعطيهن الوصفة، بل عن إمكانية طلبهن لهذا الطلب والدفع مقابله.
"أمي، هل ورق العنب البارد هذا الذي بعثتيه لأم ياسمين حين ينضج يكون كمثل الذي تعدينه في منزلنا طازجاً؟" سأل عاطف أمه متحمساً.
"نعم يا بني، هو نفس الطبق، أنا أتم تحضيره وأنضجه في منزلي على النار وهي تنضجه على نفس النار في منزلها، لا اختلاف".
"ماذا عن الرقاق المميز الذي تعدينه وطاجن البامية وورقة اللحمة و.. و .." سأل عاطف متعجلاً.
ضحكت أمه وأجابت: "طبعاً يا بني، كله نفس الشيء، فقد أتممت وصفتي قبل وضع الطبق على النار، ويكتمل الأمر بأي نار لتعطي نفس النتيجة".
نظر عاطف حوله وتذكر ظروف أمه وظروف إخوته بعد أن توفي والدهم وجاءته ما نطلق عليه مفهومَ "فكرة".
فكرة في رأس عاطف
بقي عاطف يصور كل الأطباق التي تعدها أمه يومياً بكاميرا تليفونه "المجانية" وأطلق صفحة "مجانية" على منصات التواصل، واتفق مع أمه وأخواته أن يشاركهن في مشروع جديد.
يجب أن أذكر هنا أن عاطف لم يكن يملك أي رأس مال أو معدات، أما عن المعرفة الفنية بالمنتج الذي يقدمه مشروعه فهو لم يكن يعرف كيف يعد لنفسه كوباً من الشاي، ولكنه تحالف مع من يملك رأس المال ومن يملك المعرفة الفنية، ورأس المال هنا ليس نقودا، بل وقت، فإن ما كانت تمتلكه أم عاطف ولا تمتلكه أم ياسمين هو الوقت، والأمر لا يكلف شيئاً غير ما يتكلفه البيت يومياً بشكل طبيعي من مصاريف الطعام، ثم المعرفة الفنية أضافت لرأس المال هذا.
كل ما امتلكه عاطف هو "الفكرة".
والفكرة -كما أعرّفها شخصياً- هي: "معادلة لاستغلال الموارد في حل المشاكل".
ومن هنا، يتبين لنا الخلاصة، أن الله خلق بشراً بموارد وبشراً باحتياجات، ولطالما كانت المشاريع هي همزة الوصل بين الطرفين، أطباء لديهم معرفة بالأمراض وكيفية علاجها، ومرضى، فيأتي مشروع المستشفيات والعيادات، مُدرسون لديهم علم وطلبة يطلبون العلم، فتأتي المدارس، وهكذا.
أكبر فكرة ناجحة
ولطالما كانت أكبر فكرة ناجحة هي التي تستغل أبسط موارد أو تتحالف مع أصحاب الموارد دون إنشاء موارد خاصة للمشروع، فمثلاً شركة "أوبر" لم تشترِ سيارات لسائقيها لتقدم خدمة التنقلات، بل تحالفت مع من لديهم سيارات أصلاً لاستغلال سياراتهم بما يحل مشكلة ويوفر دخلاً، وأمازون كذلك لم تصنع منتجاتها بل عرضت منتجات الآخرين وكانت همزة الوصل.
كذلك لم يجب على صاحب فكرة أوبر أن يكون سائقاً محترفاً، ولا على صاحب فكرة أمازون أن يعرف كيف تتم صناعة كل المنتجات التي يقدمها على موقعه معرفة فنية.
كبر المشروع وأصبحت أم عاطف توظف كل سيدات البيوت المجاورات لها والمشابهات لها في الظروف، واستأجر عاطف شقة وضع فيها فريزرات ومعدات تحضير طعام واستخرج شهادة صحية وأصبح يورد للمطاعم وكبرى المحال التجارية أطعمة منزلية جاهزة على التسخين.
انتظرونا في المقالات القادمة من السلسلة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.