نيابة عن قلم صديقي وأصالة عن قلمي

عربي بوست
تم النشر: 2021/03/13 الساعة 12:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/03/13 الساعة 12:40 بتوقيت غرينتش

حين يكون الصمتُ مقبرةَ كلماتي، وحين أسترخي في غرفتي، واستنشقُ هواءً يعبقُ برائحةِ السكونِ ممزوجةً، ورائحةِ سجائري "رديئة الصنع"، أجدُ أني بحاجة ولو قليلاً للتحليقِ بين فضاءات أفكاري، وبحاجة أكبر للهروب من غرفتي، التي تنطق جدرانها صمتاً مريباً قاتلاً. 

وأستسلم لموتٍ مع وقف التنفيذ، موت قصير، وقصير جداً، ولا أبخلُ على نفسي بارتداءِ أرقى "موديلات" الحُلمِ، وأغلاها، ويحرضني على ذلك فلسفة عتيقة لي، ألزمتُ نفسي اتّباعها، خاصة أنني صاحب مبدأ! وقولتي إن المنجزات العظيمة تبدأ بأحلام عظيمة تجعلني أصل لحد التطرف في أحلامي، وفي التعامل معها.

وتلزمني أيضاً أن أحرق صمتي ولفائف تبغي وأسدل ستارة نافذتي المغلقة، وأبحث بين الكلمات عن كلمات لا ينقصها لينطبق عليها "عدم الانضباط" إلا مزيد من هذا الصمت المجنون، وسلاسل أفكار متقطعة، ويثرثر قلمي، وتكون المحصلة لحظة جنون كالعادة. 

فلا تبحثوا بين الرماد عن معنى لكلماتي حين أغضب! وحتى حين أتكلم!

عِش كثيراً.. ترى وتسمع كثيراً

بالبلدي "اللي يعيش يشوف"، وأجد ضالتي -الهروب- في حكايات صاحبي التي لا تنتهي ولا أملّ سماعها. زاره ليلتها أحد "المعارف"، وطاب الحديث، وصديقي غير متعود على زيارات مطلقاً من هذه "المعرفة"! لم تعجز الوسيلة الضيف عن إيجاد سبب "وجيه" لحلوله "أهلاً" على صديقي، رغم أنه ليس في حاجة للتبرير! تعوّد صديقي مواجهة أناس مثل هذا، فالعالم (القديم) جداً المسمى ثالثاً ممتلئ بأمثال هؤلاء المواربين، الذين لا يظهرون على "رؤوس حوائجهم"، ولا يتَّبعون خطاً مستقيماً لبلوغ أهدافهم، لكن ليس لصديقي ما يخسر، إن عرف أن الآخر استفاد، وعادة ما يكون "بُساطه أحمديّاً"، هو أبداً لا يبخل في تقديم المساعدة! ويعرف أن المواربين الذين يجيدون نقل الحديث من زاوية لأخرى متذاكون في السرد قافزون من موضوع لآخر، ظناً منهم أنْ قد عقِمت أن تلد النساء من بعدهم من هو بمثل هذا الذكاء، هم لا يحتاجون -على الأغلب- نصائحه، بل إنهم يكونون قد طرقوا درب ما سألوا، فسلكوه ذهاباً وجيئة مرات، ويفهمون ما يستعلمون عنه أكثر من فهم صديقي، ومع هذا هو لا يبخل عليهم بمعلوماته المتواضعة حيال معرفتهم "الجمة"، كون أن معلومات كهذه لن تضره حتى لو استعملت بشكل سيئ، وهذا خطب مفزع طرأ على الناس بعد أن ضُربوا في أخلاقهم بمقتل، وأصبح ليس للكلام حرمات، ولا للمجالس أمانات، وذلك حين تؤخذ "السكرين شوتات" وتسجل المكالمات، ويكتم صديقي بالتالي ما يُتطلب عدم الإفصاح عنه، وحجته في التعاطي أن ليس كل الناس سيئين ولا كلهم بعارفين.

أبداً هو لا يتعب نفسه بلعب دور "التحري"، ولا يجهد عقله ولا مخيلته بأشياء غير مثمرة غير ذات جدوى أو مغزى. في زيارة امتدت نحو الساعة ونصف الساعة، جنح الضيف يمنة ويسرة يراوغ، وسأل عن هذا، ولم ينتظر إجابة شافية لينتقل إلى السؤال عن ذاك، وكأنه يريد أن يُتِيه الصديق، متقمصاً دور المحقق اللطيف الصديق "الحبُّوب"، وصديقي يجيب وذاك منصت إلى أن أُوتي سؤله، وخشي أن "يحرم" لاحقاً، إن لزم السؤال، نتيجة "كثرة التساؤل". كان حاضراً صديق صديقي، فسأله بعد ذهاب الزائر وتلك (غيبة)، لم تعد غير محمودة في زماننا: هل أنت متعود على زياراتٍ من ذلك الشخص، أجاب: نادراً، بل مرتين في عامين، ولربما أكثر، فهم صديقي مغزى السؤال، فلخّص فوراً لصاحبه سبب الزيارة حسب قراءته، هذا إن لم يك يسأل ليفهم ويعرف، لا أن يُفهم ويُعرف وينوه، وفوقها لم يك مطية لآخرين استعملوه بمقابل، طبعاً وهو يعرف "المقابل" تحديداً، وهذا تحليل خاص في حالة العمل "بمحاسن الفطن". يعني دعنا نقسم "البيدر" فنعتبر نصف الزيارة سؤالاً وحاجة قد لباها حسب الاستطاعة، والنصف الآخر حاجة (مطلوبة ومدفوعة) من آخر قد تُلبّى له بناء على نتيجة "التحقيق"، وفي الحالتين يكون صديقي نفعه ولم يضره. 

لدينا نحن الليبيين مثلاً يحض على الإمساك بذيل الكلب، حتى يخرجك من "الغريق" أي الغرق، نوع من التبرير، لمن لا مانع عندهم أن يُمتطوا من آخرين، الذين هم أساساً مطية لمطايا، وبالمناسبة صديقي (فرج) تصدى لهذا المثل بالتحليل في بوست أصدره من بضعة أيام، نافياً كونه مثلاً صالحاً ومفيداً رغم صحة وجوده في أدبياتنا، التي تضع لكل حالة مثالاً يخدم كل فرضية، في قمة النفاق في ضرب الأمثال والفصام الذي عاناه من ضربها، وكي لا نظلم القائلين، فكل يرى الموقف حسب ما عاشه فينتقده أو يمتدحه، والأثر موجود، وأعتبر الناقد للمثل أن هذا المثل أشبه ما يكون خرافة لا يصدقها الا المجاذيب، كون أن الكلاب لا تجيد السباحة، علاوة عن أن ذيولها تستخدم للتلويح أكثر من أي شيء آخر، فهي تهز أذنابها في كل المناسبات، فرحةً كانت أم حزينة، وبذلك فإن التركيبة التشريحية لذيلٍ يقتصرُ عملُهُ على ما أورد تجعله ضعيفاً جداً وهزيلاً جداً، ويقصد طبعاً ذيل الكلب، الذي إنْ شَدَدْته من السهل أن ينقطع، انتقدها وأخرجها من كل سياقات الإنقاذ المحتملة والمنطقية، بل وقارنها بقوة ذيل الحمار ورفسته في آنٍ واحد، الذي هو أقوى وغير ذي جدوى، مع الاحتفاط بكامل التقدير لمعشر الكلاب والحمير!

لتصحيح القول فإنه "عش رجباً ترى عجباً"، ولا أفهم ما المنطق الذي ربطوا به حدوث العجب أو العجائب أو "العجبة بالتأنيث"، وهو ليس عيباً، برجب المبارك المبجل عند عرب الجاهلية الأولى، قبل أن يعتمد الإسلام هذا التبجيل بالتأكيد على صفة إيجابية به، وهو أنه من الأشهر الحرم، سوى أنه للتدليل على تقلّب الدنيا، وتغير الدهر على الإنسان إن استطال به المقام لدرجة "السأم"، وتبدل أحوال الرجال إن طال بهم "المطال وطول".

يفرض عليك الزمان والمكان وجوهاً وأسماء كريهة تكره حتى أنفسها، بالمقابل تقابل وجوهاً جميلة تنطق حباً، لا يريدون منك شيئاً، ولا يضمرون لك أمراً، ولا يمارسون لعبة "الذكاء" معك، وهؤلاء دوماً بسطاء أنقياء أذكياء أوفياء! ويا ليتنا نعيش في العالم الافتراضي، فيلغي الواحد منا خاصية الاستماع لأفراد كلامهم لا فائدة منه، بل كله ضرر وأذى، ويلغي آخرين كليةً من حياته، لكن هذا خيال و"فنتازيا"، قد يتحقق يوماً، فقد أصبحنا نعيش المستقبل في حاضرنا!

تضارُب المصالح يحدث لكن هناك متسع لالتقائها

لا يجهدنّ أحدٌ نفسَه في تأويل ما هو غير قابل للتأويل، الحب يا إخواني لا يُفسر، هو ظاهرة، غريزة، هو حب، هو أي شيء، لكني أجد للكره ألف تفسير وتفسير، أجد للموت ألف سبب وسبب، فيما الحياة كان سببُها سبباً وحيداً هو الحياة لا غير، خرجت عن صمت "الصديق" الذي أراده، فيما أردت نقل تجاربه إليكم، ولا تسألوني إن كان حقيقة هذا الصديق! هو حقيقة لكنه يتميز بتغير الأسماء والملامح، لا أُفتّش عنه، بل أجده في طريقي وأستمع إليه جيداً! قَصَص صديقي تأسرني، وأحاول ألّا أحرج أو أجرح بها أحداً، فأختزلها دون تفصيلات، تكمن فيها شياطين (التأويل). التنافس مطلوب، لكن بعدل، والصراع بقوانين ضابطة، حقيقة لا مهرب منها، وما الحكاية "غير الواضحة" إلا مثال على أن هناك يداً سفلى وأخرى أسفل وثالثة أسفل الجميع، ومزاد على كل شيء بما فيه الإنسان الذي تجرّد من كل القيم، وأضحى شيئاً من الأشياء، ورقماً في دفاتر الحساب، يطرحونه ويجمعونه ويضربونه ويقسمونه، بل يصل بهم الأمر أن يربعوه أو يأخذوا عاملاً (وحيدا) منقوصاً من عوامله وخصائصه!

هي طبيعة الأشياء، الطمع يخلق الصراعات، ويقال إن الطموح المغالى فيه أيضاً يفعل، وأُكذِّب هذا مليون مرة، فالطمع ليس الطموح، الطمع موت والطموح حياة. تخبرني جدران الغرفة أنها أسهمت في إصابتي بنوع من التبلد، وهي تأسف لذلك قليلاً أو كثيراً، لا يهم، ولا أعرف أن الجدران تُخبر أحداً شيئاً، فطبيعتها الصمت إلا إذا سكنها "عفريت" ناطق! لكني أتذكرها، أتخيلها، أنظر إليها، أرى شفتيها تتمتمان بأشياء لا نعرفها، بل نعرفها! الجدران لا تسمع ولا تملك أُذناً أو أكثر، والمعقول أنها تردد ما يجول في فكر وذاكرة الإنسان صدى أنين.

تعيش الحيوانات البرية برغد، نتحدث لا ينصت إلينا أحد، يضحك البعض منا حتى ولا يحترم وجودنا، يخاف آخرون ممن يهتمون كثيراً بمراقبة حالة الطقس، هل تعرفون، أنا لا يهمني إن كان الطقس شديد البرودة، أو بالأحرى لم يعد يهمني، لن أُشهر سلاحاً في وجه أحد، وليقتلني مَن يقتل، أعرف يا من ترون الأشياء بوضوح أكبر، أنهم لم يعودوا يستعملون السلاح في ممارسة فعل أو جرم القتل! كما أني لست ذاك البطل الخارق الأسطورة، لا أطمح، لن أكون!

مللت الجدران الصامتة، ولكني لم أغيرها، أما عن تبغي فقد تركته منذ أكثر من عقدين ونصف العقد، أقدر على ترك تبغي فمن يجعل هذه الجدران تصرخ؟!

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد يوسف علي
أكاديمي وباحث
أكاديمي وباحث
تحميل المزيد