في عام ١٩٩٢ التحقت بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة. كان الأمر بالنسبة للعائلة والقرية، وربما المحافظة، التي جئت منها، حدثاً كبيراً. فأقصى الأماني، في ذلك الوقت، كانت أن يلتحق الطالب المتفوق بكلية التربية، خاصة قسم اللغة الإنجليزية، وذلك كي يضمن الحصول على وظيفة مضمونة بعد التخرّج مباشرة كما كانت الحال آنذاك. لم يكن الوالد، رحمه الله، متحمساً للفكرة، وكانت الوالدة، أطال الله في عمرها، قلقة من أن يبتعد ابنها الثامن عنها، خاصة أنه سوف يذهب للعيش وحيداً في بلاد غريبة عليه، لم يزرها في حياته سوى مرة واحدة في إحدى رحلات المدرسة الابتدائية وعاد يومها مريضاً جراء السفر.
ولكن نجحت أختي الكبرى، وكانت وقتها معلمة لغة إنجليزية، في إقناع والديّ بالالتحاق بالكلية، وأنها سوف تكون فاتحة خير عليّ وعلى الأسرة. وكانت كلمة السرّ هي أن ابنهما سوف يصبح "النخبة" بعد التخرّج. وقد كان الانطباع الشائع وقتها، وربما لا يزال حتى الآن، هو أن مجرد الالتحاق بكلية "سياسة واقتصاد"، كما تُعرف في أوساط العامة، هو بداية الطريق نحو تقلّد منصب "السفير" وربما تصبح "معالي الوزير" إذا كنت من أصحاب الحظوة، ومن أبناء الدولة المخلصين. ولِمَ لا، فقد حصلت بالفعل على لقب "سعادة السفير"، في دائرة الأقارب والأصدقاء، لمجرد أنني تقدمت بأوراقي للالتحاق بتلك الكلية، وقبل أن يصلني خطاب القبول!
التحقت بكلية "السياسة والاقتصاد" في خريف عام ١٩٩٢، أو عام الزلزال كما يُعرف، وقد كانت بحق "كلية الصفوة" بالمعنييْن التعليمي والسياسي، ولكنها قطعاً لم تكن كذلك بالمعنى الاجتماعي. فأكثر من نصف الطلاب كانوا ينحدرون من الطبقة الوسطى، وأحياناً الفقيرة، وقد جاء معظمهم من خارج العاصمة المصرية: القاهرة. بعضهم جاء من أقصى أقاصي صعيد مصر، قنا والأقصر وأسوان، والبعض الآخر من أقصى الغرب، مرسى مطروح، ومن أقصى الشمال، الإسكندرية والبحيرة وكفر الشيخ، ومن أقصى الشرق، سيناء والإسماعيلية. والجميع يحلم بأن يكون جزءاً من "النخبة". فقد كان التعليم في مصر، في ذلك الوقت، هو القاطرة الرئيسية للترقي الاجتماعي، وتحسين الظروف الاجتماعية، وقد يفتح الباب أمام الحصول على قدر، ولو ضئيل، من "كعكة" الامتيازات الاقتصادية التي كانت مقصورة على أبناء الطبقة العليا. بل يكفيك الشعور بأنك تنتمي للنخبة أو الصفوة، حتى وإن لم يكن في جيبك ما يكفي للعودة بالقطار من مصر (الاسم الذي يطلقه قاطني الأقاليم على القاهرة) إلى قريتك في ربوع المحروسة.
تعليمياً، كانت كلية "سياسة واقتصاد" هي الكلية الوحيدة التي تمنح درجات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه في تخصصات العلوم السياسية والاقتصاد والإحصاء، ولاحقاً في الإدارة العامة والحاسب الآلي. وكانت أعداد الملتحقين كل عام لا تزيد على 300 طالب من المتفوقين وأصحاب المراكز الأولى في الثانوية العامة. يقوم على تدريسهم عدد كبير من الأساتذة والمدرسين والمعيدين الذين تلقوا تعليماً متميزاً خاصة الذين تم ابتعاثهم خارج البلاد. ناهيك عن التعامل اللائق والمحترم بين الطلاب والأساتذة وكذلك الموظفين، وهو أمر كان، وربما لا يزال، نادر الحدوث في الجامعات المصرية، وفي القطاع التعليمي بوجه عام.
سياسياً، فإن عدداً غير قليل من الطلاب والأساتذة ينتمون لعائلة إما بها وزير أو سفير أو نائب في البرلمان أو مسؤول كبير في الدولة. إذاً كل شيء من حولك يدفعك دفعاً نحو الشعور بأن أصبحت فعلياً جزءاً من "النخبة"، أو على الأقل أصبحت قاب قوسين أو أدنى منها. هذا الشعور، وإن كان خادعاً ومبالغاً فيه، إلا أنه كان يتملك الجميع: أساتذة وطلاباً وموظفين وعمالاً إلى الدرجة التي كانت تنعكس في سلوكنا مع بقية الطلاب من الكليات والجامعات الأخرى، الذي كان يصل في بعض الأحيان إلى العنصرية والتنمر والاستهزاء بهم لأنهم لم يصلوا لما وصلنا إليه.
إذاً أصبحت فعلياً من النخبة بمجرد التحاقك بتلك الكلية، وكأنك ملِك ينتظر التتويج. ولكن ما يلبث هذا الشعور "النخبويّ" أن ينهار بمجرد تخرّجك في الكلية، وتصبح خارج "فقاعة" التميّز التي مكثت بها أربع سنوات، حين تبدأ في رحلة البحث عن وظيفة. وإذا كنت من أصحاب الحظ العاثر، فسوف يصبح انتماؤك لهذه الكلية نقمة ولعنة تطاردك في أي مكان تذهب إليه لإنهاء بعض المعاملات الحكومة كرخصة قيادة سيارة أو توثيق بعض الأوراق في الشهر العقاري. وتصبح من المنحوسين إذا ذهبت لأحد أقسام الشرطة، أو التحقت بالخدمة العسكرية، التي يتعمد ضباطها إهانتك وكسر نفسك بمجرد أن يعرفوا أنك من خريجي "سياسة واقتصاد". ولا تدري هل هي عقدة ذنب وإحساس ذاتي بالدونية أم أنه تقليد مؤسسي عريق يجب اتباعه وتطبيقه على الجميع.
النتيجة تظل واحدة، وهي أنك لست من النخبة، وأن ذاك الشعور كان برجاً من خيالاً فهوى. ولكنك أيضاً لست من العوام، أو هكذا تشعر، وتظل معلّقاً بين هؤلاء وهؤلاء. وفجأة تتبخر أحلام "سعادة السفير" و"معالي الوزير" ليحل محلها أحلام بسيطة هي إيجاد أية وظيفة، تسد بها رمقك، وتسكت بها عيون الناس التي تتربص بك في الرايحة والجاية.
وقد جاءت صدمة "الإفاقة" الأولى حين التحقت بأول وظيفة حكومية لي، وهي العمل كباحث في مؤسسة بيروقراطية كئيبة ليس له وظيفة حقيقية أو معنى هي "هيئة الاستعلامات العامة"، وذلك براتب ١٤٩ جنيهاً شهرياً. ورغم بؤس المكان والوظيفة، فإنني كنت محظوظاً أن أجد وظيفة بعد تخرجي بأسابيع قليلة. فكثير من أقراني وزملائي، خاصة الذين جاءوا من الأرياف والأقاليم البعيدة مثلي، إما عادوا أدراجهم من حيث جاءوا بعد أن تبخر الحلم، أو ظلوا في القاهرة عاطلين ينتظرون فرصة أو ضربة حظ تفتح لهم الأبواب المغلقة.
وكنت قد انضممت للهيئة بتوصية من إحدى أساتذتي التي رشحتني، مع ثلاثة زملاء آخرين، للعمل في وحدة جديدة كان قد تم إنشاؤها تحت إدارة الأستاذ إبراهيم العيسوي، وكانت مهمتها متابعة الإنترنت. كان ذلك في صيف عام ١٩٩٦، وكان الإنترنت قد دخل مصر حديثاً من خلال شبكة النت سكيب Netscape وكان حدثاً جللاً وقتها. ورغم أن الوظيفة كانت تخلو من أي إبداع حقيقي، فإننا لم نسلم من نظرات وتعليقات الموظفين القدامى، وكثير منهم كانوا من قدامى الخريجين من نفس الكلية، والذين كانوا يتهامسون في سرّهم حول هؤلاء الشباب الصغار الذين لا يزالون يعيشون في حلم، وإن شئت قل وهم، "النخبة".
أتذكر أحدهم، وقد نصحني بألا أبقى في ذلك المكان لأنه بمثابة "مقبرة الباحثين". وقد كان محقاً، فههو شخصياً كان قد التحق بالهيئة قبل عقدين وقد تكلّس عقله وإمكاناته البحثية بسبب عمله البيروقراطي، الذي لم يكن يحتاج أي إبداع أو تفكير. كانت وظيفتنا مجرد متابعة الصحف اليومية، وترجمة بعض مقتطفات الصحافة الأجنبية عن مصر.
وقعت نصيحته عليّ كما لو كانت "دشاً بارداً" أفاقني من وهم "النخبة" الذي تلبسنا على مدار أربعة أعوام، فقررت ترك الهيئة بعد أسابيع قليلة من الالتحاق بها كي أبدأ رحلة البحث عن وظيفة أخرى ولهذا حديث آخر.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.