هل جربت هذا الشعور يوماً؟! أن تختلط الفرحة الغامرة بالشجن، فيختبان سوياً في عروقك ويلتحفان حيناً بتعبيرات غموض تعتري وجهك أو ضحكات هستيرية لا تعلم سببها.
ابتسامة زائفة هنا، ونظرة عين تحملق في الأفق تتساءل وتسأل: ماذا بعد؟
هل هذا أنا؟ هل عشت كل تلك السنين حقاً؟ ألم أكن بالأمس في الصف الأول الإعدادى!
هذه أوائل التسعينيات قد غادرتنا منذ يومين فقط!
هل جربت هذا الشعور يوماً عندما تمرّ سنة من عمرك لتخرج من العشرين إلى الثلاثين وتظل هكذا حتى تطل برأسك من نافذة التسعين.
أن تتذكر حوارات والدتك مع جارتها عن الجدة التي تسكن في آخر شقة في العمارة.. تلك السيدة التي كلما قابلتك ابتسمت في وجهك وفتحت حقيبتها لتعطيك قطعة من حلوى مميزة لا تباع إلا في المحلات الكبرى.
وعندما سألت والدتك يوماً عن عمرها أخبرتك بأنها في الخمسين من عمرها لتفتح فاك في ذهول قائلاً: "يااااه دي عاشت كتير أوي"!
هل استيقظت يوماً وأنت تتفقد ملامح وجهك فوجدت خطاً رفيعاً يرسم تجعيدة خفيفة تحت عينيك؟ وعندما حاولت التغاضي والتظاهر بأن الأمر لا يهمك وابتسمت لنفسك ابتسامة الواثق ففوجئت بأن صف أسنانك الأمامي به اختلاف طفيف عن ذي قبل!
أنت تعلم حقاً أن هذا لم يحدث في ليلة وضحاها وأنك كنت تراقب هذا عن كثب لكنك كنت تنكر أن هذا هو أنت أو أنك كنت تتلهى بأي شيء آخر حتى لا تصاب بالإحباط.
نعم هكذا علمونا.. أن الكبر يساوي العجز، وأن سن اليأس يأتي للمرأة وهي في عمر الأربعين، لا أعلم هل هو يأس من حياتها أم يأس من عدم إنجابها أم أنه يأس من عالم مزعج محبِط..
هكذا علمونا في مجتمعنا أن الشكل الخارجي أهم، وأن ملابسك ومشيتك ومظهرك وسيارتك وساعتك وعنوان منزلك أو حتى حذاءك هم أهم منك أنت شخصياً لأنه سيتم الحكم عليك من الخارج أولاً وقبل أن تتفوه بأي كلمة.
هكذا علمونا أن الكبير في السن هو شخص قد أدى الرسالة التي عليه في الحياة ويجب أن يترك مجالاً لغيره من الشباب، وأن العمر يقاس بالساعات والأيام والسنين ولا يقاس بالخبرة والحنكة.
هكذا علمونا يا أمي وليتهم ما علمونا!
أنا أعيش في هذا المجتمع يا أمي وأحاول جاهدة أن أكون نفسي وفقط، أحاول الفكاك من كل قيد بشري يكبلني وأحاول التحلي بالصبر وأنا أصارع بعض العادات والتقاليد في هذا المجتمع.
طوال عمري كنت أرى سيدات مجتمعي يخجلن من أن يبحن بأعمارهن في حين أنني لم أجد أي غضاضة في أن أبوح بعمري، لكنني أصدقك القول فلا أعلم ماذا حدث لي عندما وطئت قدماي سن الأربعين.
كانت ليلة ليلاء، يوم أن ظهر لي خادم المصباح وأنا أعد كوب الشاي بالحليب الخاص بي قائلاً:
شبيكي لبيكي عبدك وبين إيديكي، ماذا تتمنين يا صاحبة الأربعين؟
أجبته:
– جعل الله كلامي خفيفاً عليك.. أية أربعين تتحدث عنها، ألا تلاحظ أن كلامك جارح
– قال لي: هيا أخبريني بأمنيتك سريعاً
– قلت له: أتمنى العودة للعشرين من عمري
أطلق ضحكة ساخرة وقال:
محال محال أن يصبح السبع غزال وأن تستقر المياه في الغربال وأن يصبح الحانوتي بقال.
– سألته: هل تعني أنه لا يمكن؟
– فأجابني: لا.. بل هو ضرب من ضروب الخيال
لا أعلم ماذا أفعل؟
ماذا أفعل يا أمي وأنا لا زلت أعشق قراءة مجلة ميكي ولا زلت أفضل شخصية بطوط على ميكي ولا أعرف السبب، ولا أريد أن أعرف.
أقلب في صفحات المجلة لألتقي بالجدة بطة، وتدور عيني هنا وهناك لأضحك على سذاجة بندق.
أتعلمين أنني قد أشاكس أبنائي بسبب قطعة من الجيلي كولا، وأنني لا زلت أحتفظ بقصص المغامرين الخمسة في درج مكتبي.
أتعلمين أنني لا أملّ من لعبة "أتوبيس كومبليت"، وأنني علمت فيما بعد أن لها اسماً آخر، لكنني لا زلت أصرّ على نطقه بنفس الطريقة القديمة حتى لو كان خاطئاً.
أتعلمين أنني بعد كل تلك الأعوام أضحك عندما أشاهد توم وجيري، ومازلت أتوق لسماع تتر مسلسل "ليالي الحلمية" و"الشهد والدموع"، وأنني في أوقات فراغي أجدني أدندن بأغاني صفاء أبوالسعود.
أتعلمين أن قلبي يرقص فرحاً عندما أسمع صوتك، وأنني أكون كالطفل التائه إذا لم أطمئن عليك كل يوم، وأني أسعد بأبسط الرسائل من قلوب أحبتي، وأنني لا زلت أبحث عن الألوان المبهجة في الملابس وفي أثاث المنزل لأستشعر الدفء فيها والجنون.
وأن غزل البنات لا زالت حلوتي المفضلة، وأن التنانير المستديرة تسلب قلبي وكأنني طفلة بضفيرتين تريد أن تدور بها في الغرفة.
وأن زهرة أو قطعة من الشيكولاته أو حتى كوباً مميزاً من الشاي بالحليب يكفيني ويرضيني ويجعلني أنتقل لعالم آخر من المرح والحبور.
لقد اكتشفت ما هو أهم يا أمي: أن العمر لا يقاس بعدد الأعوام التي عشناها إنما يقاس ببهجة الروح التي عاشت تلك الأعوام، وأن الطفل بداخلنا لم يمت بعد، ولن يموت ما دمنا نقوم بتدليله ورعايته كما ينبغي، لأن موته هو أول علامة على العَجَز الحقيقي.
وأنه سيحيا عندما نسمح له بالعيش والتنفس، وعندما نخبره بأننا مهما بلغنا من العمر نحتاج إليه وإلى بعض من البراءة وبعضاً من الجنون.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.