لا صوت يعلو على صوت الصمت وحفيف الأشجار مع خرير وادي دادس بالمغرب الذي تناقص صبيبه بشكل كبير رغم أننا في عز فصل الشتاء الذي تعرف فيه العالية تساقطات ثلجية ومطرية بين الفينة والأخرى.
وادي دادس في المغرب يعتبر أحد الشرايين الحيوية للمنطقة، لكنه أصبح كالشيخ المريض الذي أصابته الإنفلونزا الموسمية فصار يكتفي بالعطس والسيلان بدل الجريان الحقيقي، وكأنه هو الآخر نال نصيبه من الكساد الذي أصاب البلاد والعباد من جراء كورونا، فحلف بأغلظ أيمانه أن يعلن الحداد على ضحاياها ويحتج بطريقته على تماديها في حصد المزيد ويقسم على ألا يعود إلى مستواه إلا بعد أن يتراجع المرض الخبيث عن غيه ويسافر إلى حال سبيله إلى غير رجعة.
إلى ذلك الحين، إلى حين أن تضع كورونا سلاحها الفتاك، ما زال الإله الأفعى المسمى وادي دادس مصراً على تخفيض مستوى صوت سيمفونيته التي يعزفها ليل نهار بلا كلل ولا ملل، تخفيضها إلى الحد الذي يشبه صوت كمان يطلق موسيقى حزينة تُبكي القلب من كمد، متناسياً أنه بتعنته ذاك يزيد من حجم الأزمة لما يصيب الزرع والضرع من جفاف.
صمت مطبق وهدوء أكثر من اللازم، لا يكسره من حين لآخر غير صوت بضع سيارات أو حافلات مهترئة للنقل المزدوج وهي تمشي الهوينى مطلقة ذيلاً من دخان أسود، داكن اللون صاعدة منعرجات تسضرين باتجاه أعالي مسمرير وتلمي أو قافلة منها صوب بومالن دادس.
أشجار الصفصاف والجوز والتين تودع آخر أوراقها الصفراء اليابسة لتسلمها للرياح لتتقاذفها ذات الشمال وذات اليمين كأنها أم تعبت من حمل رضيعها فأبت إلا أن تتخلى عنه، أو كأني بها عجوز في خريف العمر بدأت ضفائرها بالاصفرار فطفقت تفقد آخر خصلات شعرها.
الشمس بدأت تميل شطر المغيب والجو ملؤه الكآبة والضجر، جو السبات أو الموت الشتوي، لا أدري، المهم لا مظاهر للحياة ولا الحركة سوى لجِراء كتب لها أن يكون ميلادها في عام كورونا على وزن عام البون وعام الروز… وإن بآثار أقل حدة.
جراء تقفز هنا وهناك وكأنها أخيراً تحررت من غطرسة الإنسان ومن احتلاله لكل الأرجاء من سهل وجبل، مرتفع ومنخفض، أو من يدري فقد تكون على العكس تبكي وحشة وحزناً على وحدتها وعلى غياب بني آدم الذي كان يكرمها بالطعام، تختار منه أجوده وتعاف آخر، أما اليوم فلا تجد حتى فضلاته، فأضحى لسان حالها ينشد؛ من سره زمن ساءته أزمان.
الوباء لم يرحم أحداً؛ رجال أعمال سياحيون اقترضوا الملايين لإقامة مشاريع سياحية عملاقة وما إن أوشكوا على إنهائها والاستعداد لجني ثمار عملهم الذي دام لسنوات حتى جاءت الجائحة وقلبت كل شيء رأساً على عقب، فاعلون في القطاع السياحي، سائقون مهنيون ركنوا سياراتهم في المرائب وتحت الأشجار، تحدثك عن حالهم أبواب موصدة لعشرات الفنادق المقفلة التي تطلع من خلالها على الأفئدة، أفئدة عشرات العمال من نوادل وطباخين أمسكت كورونا أرزاقهم وقترت عليهم وعلى عيالهم.
موحى L'afrique وإسماعيل Rasta وإبراهيم Cigarette وغيرهم كثير، ألقاب لمرشدين سياحيين معتمدين من وزارة السياحة وآخرين غير معترف بهم، دفعهم الفيروس إلى العمل في أعمال موسمية كجني الزيتون أو بيع التمور أو التحول إلى مهن أخرى كالبناء والصباغة، وما ذلك إلا لكسب قوت يومهم وتأمين مصاريف سيجارتهم التي يستهلكونها معتقدين أنها ستنسيهم محنتهم، في حين أنها لا تزيد إلا في إحراق قلوبهم بدخانها، بعدما كانوا يتلقون مبالغ لا بأس بها من الأورو والدولار جزاء خدماتهم وحسن تعاملهم مع الضيوف القادمين من كل الأصقاع لزيارة بلدهم.
هذا هو حال واحة دادس بالمغرب وفنادقها الغارقة في صمت مريب زمن كورونا بعدما كانت تعرف حركة دؤوبة وخاصة في فصل الربيع وعطل أعياد الميلاد.
في الأيام العادية وفي مثل هذا الوقت من اليوم الذي حللنا فيه بالواحة، كانت قوافل عشرات الحافلات السياحية وسيارات الدفع الرباعي المحملة بمئات السياح القادمين من مراكش والمتجهين نحو مرزوكة، ترتمي بين أحضان دادس للاستمتاع بمنظر قصباتها الشامخة وفنادقها المعلقة والتقاط صور للذكرى في منعرجات تسضرين العالمية وأمام اللوحة السريالية التي وهبتها الطبيعة لهذه الواحة في الموقع المعروف
بـ"أصابع القردة Les pattes des singes" في انتظار الصباح لتستكمل القافلة طريقها نحو كثبان صحراء مرزوكة، أين تنتظرها مناظر أخرى مختلفة تماماً لكنها لا تقل سحراً وروعة.
وفي مثل هذا الوقت من كل سنة كذلك، كنت تجد عشرات الفنادق المتراصة على طول الواحة والمتاخمة لوادي دادس وهي تستعد لاستضافة مئات السياح القادمين من كل فج عميق لقضاء ليلة رأس السنة بعيداً عن ضجيج المدن وجلبتها، فترى عشرات النوادل بربطات عنق أنيقة وأقمصة بيضاء فوقها سترات سوداء كأنهم خلايا نحل، يسارعون الخطى ويتنافسون في تزيين الواجهات بالأضواء الزاهية وإشعال الشموع وترتيب الكراسي والموائد وإعداد حفلات الموسيقى والمفاجآت السارة وغير المتوقعة لمن يتزامن عيد ميلاده مع هذه الذكرى التي ينتظر الجميع بشوق كبير إحياءها، لأنها لا تتكرر إلا بعد 365 وأحياناً 366 يوما.
كل فندق يجتهد ليكون هو الأفضل في خدمة وإرضاء الزبائن في تلك الليلة الموعودة، ليلة رأس السنة، فينال إلى جانب الربح المادي ربحاً معنوياً من خلال التعليقات المنوهة والإيجابية في موقع Booking ما يضمن له المزيد من الوافدين في المرات المقبلة.
في السنة ما قبل الماضية، حسب بعض العاملين في القطاع السياحي، قضى ما يزيد على 600 سائح ليلة رأس السنة على ضفاف واحة دادس وتحت سقف فنادقها التي يخيم عليها هذا العام جو من الانكسار المشوب بالحزن الذي حولها إلى حيطان ترثي وتبكي من كمد في انتظار مستقبل زاهر وغد مشرق ينسي عشرات المنعشين والعاملين في قطاع السياحة بالمنطقة ما تكبدوه من خسائر طيلة سنة تقريباً من التوقف عن العمل، خسائر يزيدها البرد القارس هذه الأيام قساوة وشدة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.