خرجت للركض صباحاً ومدينتي التي أُحِبها بَدَت غريبة ومُعتِمة تكاد تَتَمَلمَل من الوَحشة والسأم. الطقس فاتِر وخَدِر تشعر به على خَدِّك رقيقاً كإيماءة حُب، أقِف في الهواء الطَّلق بروح عارية مثل خيل ركضت منذ يناير فوق مَرج أخضر وانتهى بها الحال حيث لا وِجهَة. لكن طِفلاً أرسل لي القبلات في الهواء كطريقة لتحيتي، الدلال والبراءة اللذان ينعسان تحت عينيه، وجهه الملطخ بالحلوى وتعثُّر لسانه بينما يمعن في التأتأة، قضم قلبي فانشرح صدري واستحالت عتمة المدينة إلى جمال من نوع فاخر وعاد ليومي بعض الدهشة.
حينها تَذَكَرت قول صديقي "دوستويفسكي"، إنه "لابد لكل إنسان مِن أن يجد ولو مكاناً يذهب إليه، لأن الانسان تمرّ به لحظات، لا مناص له فيها من الذهاب إلى مكان ما، إلى أي مكان"، آه يا دوستويفسكي كم نعرف جيّداً تلك الأيام التي يكون فيها المرء وحيداً بكل ما تحمل الكلمة من وَحشَة، بل راضياً وقنوعاً، لكنه يظلّ يتمنى بصمت لو أن له وِجهة واحدة يمضي إليها، لو أن له شخصاً واحداً يركض تجاهه.
أدّعي أن جميعنا عاش هذه الحالة النفسية في الوقت العصيب الذي مرّ على البشرية خلال هذا العام، حيث نضجنا فيه دفعة واحدة كما تفعل الحروب والكوارث. نضجنا وعرفنا أنه من الضروري ألاّ نَحمِل عَشَمَاً خاصاً بزمن ما أو حالة مزاجيه مُعينة، بل أن نكون نحن هذا العشم الذي لا يتأثر بشيء إلا بشكل متبصّر وحساس وصادِق. فالاعتياد يكلّف الكثير والحياة تتسع للتوَقُّف بقدر اتساعها للتمادي في شيء ما، تتسع لأن نعيد إنتاج أنفسنا من جديد.
فيجب أﻻ نتخدر بما نعرفه عمّا لا نعرفه، ولا تقصر همتنا بما أحرزناه عمّا لم نحُزه، ولا تتراخى نفوسنا بيقين ما إلا وأيقظناه بالشك والسؤال، ولا تركن خطانا إلى ركن إلا أعددنا أنفسنا لمغادرته. أن يهزم الإنسان نفسه في صميم ما تريده وتتطلّبه من أمور قد تصرفها عن نزاهتها وتوازنها ،فلن يفلح مَن لم يأخذ نفسه بالحزم ولو لساعات كل يوم. ومع الحجر المنزلي أدركنا أنَّ كثيراً من نشاطاتنا اليوميَّة وعاداتنا التي كُنّا نتأفف ونضجر منها هي نعمة، من الواجب صيانتها وهذا يتركنا في حالة من الامتنان لكل ما نحن عليه، فكم هي رحبةٌ خياراتنا للنفاذ والعيش.
تعلّمنا أن العلاقات دَرب لم يَنجُ من وعثائه إنسان وأنّ الذكاء الاجتماعي هو ألا تكون اجتماعياً أكثر مما يجب، أن نعيش بخفة في حياة بعضنا. الذكي اجتماعياً هو الشخص اللمّاح النّابه الذي يصمت أكثر مما يتكلم ويراقب أكثر ممّا يحكم ويحذر أكثر مما يتصرف، فلا يقول إلا ما يريد ولا يفعل إلا ما يرغبه، ولا يعِد بما ليس في وسعه، ولا يذهب في طريق لن يكملها. هو الليّن في القول، الطيّب في الفِعل، النظرة التي تواسي والقلب الذي يضم. الذي يحسّ بأنه مَعنيٌّ بما هو أكثر من نفسه، وأن عليه واجباً تجاه الآخرين: همومهم ومزاجهم العام فيسمع منهم دون أن يحاكمهم أو فمن حق كل إنسان أن يحظى بالفرصة الكاملة أن يكون على حقيقته فلا تسجن الآخرين في مربع التكلف.
الحزن موجود ولا ينبغي لأحد أن يُشرّح الحزن، إنه ليس مادة ولا يمكن إدخاله للمختبر. الحزن عالق بكل شيء حولنا من فقد ومرض وملل وانعدام الأسباب وانطفاء الروح. ما ينبغي هو أن نتقصّد تلك الطرق التي تجعله جميلاً أو مفيداً أو منسياً. ندرب النفس على هذا حتى تصير لا تجد سلواها إلا في التعاطف مع الآخرين كما لو كنّا نستعين بهذا العطاء على تخطي الذات والحزن معاً. إن ما يجعل شخصاً ما عظيماً ولا يتكرر هي الروح، لأن جمال الظاهر يمكن امتلاكه بالحظ، ويمكن صناعته وشراؤه أيضاً، أما الروح والطبّاع فـ"هما أشياء لا تُشترى"، إنهما ميزة الفرد الذي يستحق الحب وكل خير دوماً.
أيقنّا أن لكل إنسان منّا رصيده المقدّر من الرزق، قد يوفى سعته في الأخلاق، في العافية، في العائلة والأمان، في الخِفة من الحزن والخفة من الخوف والانتظار مع انعدام الأسباب كما عاش مصابو كورونا. وقد تكون في المال أو في النجاح، قد تكون السعة التي طالتنا في أمور لا ننتبه لها جيداً وغيرنا يتمنّى أن يعيش بعضها. فلا تدع الآخرين يُشعرونك بحاجتك لأشياء أنت لم تشعر بحاجتك لها يوماً ما.
مَرّ عام اكتسبنا فيه مهارة التحمُّل، لأن الله كان أحرص عَلَينا مِنّا. عَلّ أزمة كهذه أن تطهرنا من أحقادنا وتحامُلنا. محتاجون الآن إلى كامل إنسانيتنا ووعينا، إلى الاتحاد والتعاضد، إلى التزام التدابير الوقائية والحث عليها، إلى جوهرنا وما تربينا عليه من العطف والإحسان، أن نتحرى عن كل صديق وقريب وحبيب، ونتلمس الحاجات ونساعد بعضنا، ونمدّ بعضنا بالأمل والقوة، كل شيء آخر مجرد هباء ستذروه الرياح وسيبقى ما ينفع الناس.
فلا تجزع ولا تَعِش على ما تظن أكثر مما تعش على ما تعرف فتلك خدعة التعاسة. ليس بالضرورة كل ما خسرناه "شر وراح" وكل ما كسبناه دائماً "غنيمة"، الصورة العامة أكبر من الخير والشر، أكبر مِنّا جميعاً والهدف من هذه الحياة -الدنيا- لابد أن يتجاوزها إلى ما بعدها، الآخرة. فالتريّث أخو الحكمة، والتردد ابن الحيرة البار، والوعي والنضج متلازمان، وإن كان ولابد فلتكن آخر مَن يسقُط وأول مَن ينهض، وقد قيل "مَن أمضى يومَهُ في غيرِ حَقٍّ قضاه أو فَرضٍ أدّاه أو مَجدٍ بناه أو حَمدٍ حصّله أو خير أسسه أو عِلمٍ اقتَبَسه، فقد عقَّ يَومَهُ وظلم نفسه". كونوا بخير والسلام.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.