سعادةٌ مُزيّفة.. تلك التي تجلبها لنا الأفلام الرومانسية التقليدية، لا أنكر أنّها مسليّة، ومضحكة أحيانًا، وتُشعر الواحد منّا بالابتهاج، ولكنّ يعلم أغلبنا- الناضجين منّا-، أنّها سعادة مُزيّفة، بقدر تزييفها للواقع، الذي لا يُشبه هذه النوعية من الأفلام إلا في نصفه السعيد فقط.
الأمر ليس سراً، فصنّاع الفيلم يعلمون جيداً أنّهم يمنحوننا هذه السعادة المُزيفة طمعاً في رضانا، ونقبلها نحن منهم، رغبةً منّا في أن نشعر بهذا الشعور الذي يُرضي عاطفتنا، حتى وإن كان غير حقيقي.
فمن منا لا يودّ أن يهرب من الواقع الكئيب، إلى جمال البدايات، حيث الغموض، واللهفة، والانجذاب، مروراً بالانسجام والألفة، وحتى الاحتواء والسكن؟ هذا هو ما يمنحه صُنّاع هذه الأفلام لمشاهديها الظمآنين للحب، وهي التجارة الرابحة التي لا تخيب.
وهذا لا يمنع من أنّه أحياناً، لللتظاهر بالمصداقية، يفتعل كاتب الفيلم صراعاً ساذجاً ما بين الحبيبين، كي يُبرهن لنا على قوة ذلك الحب المزعوم، والذي ما إن ينجح فيه الحبيبان بدرجة 10/10، سرعان ما ينسدل تتر النهاية، تُصاحبه أغنية رومانسية جميلة، وينتهي الأمر بأنّ يعيش الحبيبان في تباتٍ ونباتٍ.
و.. أنتم تعرفون البقية.
وجاء فيلم Blue Valentine ليكسر القاعدة، فوجدت فيه الرومانسية الكاملة، الحقيقية، بوجهيها الحسن والقبيح، بلا زيفٍ أو تجميل..
رأيت فيه قصة حب واقعية، قصة مرّ بها الكثيرون منّا، أو ربما شهد بعضنا على حدوثها لأحد الأصدقاء، عاصرنا فيها بداية الحب، ونهايته، وكل المرات التي بدا فيها وكأنّه سيموت، ولكن رُدّت فيه الروح، وحتى تلك المرةّ التي ظنناها ستمرّ كالعادة، ولكنها لم تفعل. لنكتشف في النّهاية أنّ الحب قد فارق الجسد، وأنّنا-ياللعجب- ما زلنا أحياء ولم نمت.
احتفالاً بمرور 10 سنوات على صدور فيلم Blue Valentine، أحببت أن أكتب خواطري الخاصة عن هذا الفيلم الحقيقي لدرجة الألم.
قصة حب عاديّة
مشكلة العلاقات العاطفية في رأيي أنّها شديدة التأثير..شديدة الهشاشة، وشديدة التعقيد..
شديدة التأثير لأنّنا نتعلق بمن نحب، لأسبابٍ لا نعرفها، في البداية، يبدو الأمر وكأنّ باباً سحريّاً للعالم قد انفتح فجأة، لنا وحدنا، فنرى فيه ما نعتقد أنّ لا أحد في هذا العالم قد رآه من قبل، فنشعر أنّ الحبيب يملكنا، وأنّنا نملكه، وأنّه لا فرار لأحدنا من الآخر، إلا بالموت.
شديدة الهشاشة.. لأنّ أدّق شيء، يترك أثراً على كل شيء، فلا يعود ذلك الشيء كما كان أبداً.. وقِس على ذلك ملايين الأشياء..
شديدة التعقيد..لأننا في أغلب الوقت لا نعرف ما الذي حدث بالضبط، كيف بدأ الأمر، وكيف انتهى؟ وتأخذنا دوامة من الأسئلة التي لا تنتهي، من أين يأتي كل هذا الألم؟ ومتى حضرت التعاسة التي كانت ضيفاً غير مُرحب به، لتصبح "صاحبة بيت"، طاردةً للمحبة والسكينة بعيداً.
هذا الفيلم لن يُجيبك على سؤال، ماذا حدث؟ ولن يخبرك حتى، ماذا حدث بشكلٍ كامل، بل إنّ الفيلم سيُضيف لك مزيداً من الأسئلة حول حقيقة الحب، وما الذي يُمكن أن يفعله الزواج، بهذا الحب.
يقص علينا فيلم Blue Valentine قصة حب عادية، وهي قصة واقعيّة لا يُفترض فيها بالطبع أن تكون كئيبة، وإنّما منطقي جداً، أن تمرّ بكثيرٍ من الأشياء غير المنطقية، وهذه الأشياء هي التي صنعت هذا الجو العام من الكآبة، لهذا خرج فيلم Blue Valentine للعالم، كأحد أكثر الأفلام الرومانسية بؤساً.
سنُشاهد في الفيلم قصتين للحب، قصة البداية، وقصة النهاية، أمّا ما بينهما، فيتركنا مخرج وكاتب الفيلم الأمريكي Derek Cianfrance لنستنتجهُ، وهو الشيء الذي لن يكون بكل هذا الغموض، حينما نُعايش قصة الحب الحزين لكل من الزوجين "دين" و"سيندى" لمدة يومين فقط في الزمن الحاضر.
قصة البداية..
يأخذنا كاتب الفيلم في رحلة إلى الماضي، لنعرف كيف التقى كل من "دين" و"سيندى" في البداية، وكيف تطورت قصة حُبهما، وصولاً في النّهاية لمشهد زفافهما الرقيق.
هذا الجزء من الفيلم، يُمكن اقتصاصه بمفرده، ليكون فيلماً رومانسياً رائعاً بحق، ينتمي إلى تلك الأفلام التي تحدثت عنها في البداية، وإن كان أداء بطلي الفيلم Ryan Gosling و Michelle Williams، سيجعل الفيلم فريداً من نوعه، ومميزاً بشكل ينفذ إلى القلب مباشرة.
وهو ما كاد يحدث فعلاً، حسب تصريحات مُخرج الفيلم Derek Cianfrance، بعدما قام بتصوير ذلك الجزء الرومانسي مُتتابعاً وكاملاً، وذلك قبل أن يبدأ تصوير الجزء الآخر بشكل متتابع أيضاً، وهو الجزء المُظلم من القصة، فيقول إنّه كان هناك بعض النقاش الجدّي بين فريق العمل بخصوص التغافل عن الجزء الحزين من الفيلم، والاكتفاء بقصة الحب التقليدية.
ولكن Cianfrance الذي عانى هو نفسه من تبعات الانفصال بين والديه، أراد أن يصنع فيلماً يُجسّد معاناته التي شعرها يوماً ما، والتي لم يرها تُعرض على الشاشة من قبل إلا نادراً، فكتب هذا الفيلم، وقرر أن يراه العالم، بالصورة التي كتبها كاملة.
ككل البدايات.. كانت البداية جميلة، وواعدة بالكثير..
كان هناك "دين" الشاب الجريء، الذي تركت أمه أباه حينما كان صغيراً، فظلّ يحلم بالحب من النظرة الأولى، والذي تجمعه الصدفة مع سيندي، المتحفظة، التي عاشت في بيتٍ يُساء إلى أمها فيه من قبل والدها، والتي مرّت لتوّها بتجربة عاطفية سيئة. لم يُقاوما دين وسيندي كثيراً، بفضل حياتهما الصعبة، فهرع كل منهما للآخر..
اندفع دين ناحية سيندى بقوة الاحتياج لامرأةٍ تبقى جواره، وبدافع الحب في صورته الرومانسية الطفولية قليلاً، وأغرقت سيندي نفسها في حضن دين الواسع، الذي وعدها باحتواءٍ أبدي لضعفها.
تزوجا وهما يبكيان، وكان هذا آخر عهدهما بالسعادة.
قصة النهاية
حينما نُشاهد مشاهد الزمن الحاضر التي تبدأ ببداية الفيلم، لا نعرف وقتها أنّها ستكون مشاهد النهاية الفعلية، ففي خلال يومين فقط، سينفجر اللغم الكامن في حياة دين وسيندي فجأة، بعد ست سنوات فحسب، من حياة اثنين في قصة حب عادية.
نرى دين نضج مظهرياً، رغم كونه يتصرف كالأطفال، خاصة في وجود "فرانكي" ابنته، وهو ما لا يروق لسيندي، التي تبدو غاضبة أكثر الأوقات.
يظهر لنا الآن وبالتدريج، مدى التباين بين شخصيتي دين وسيندي، فدين يبدو أنّه لا يحمل للدنيا هماً، ولا طموحاً كذلك، يعمل كعامل دهانات للبيوت، راضٍ عن نفسه ووضعه أكثر مما ينبغي.
أمّا سيندي، التي كانت تطمح كي تكون طبيبة، أصبحت ممرضة، تُثقلها الأفكار والمسؤوليات، فمُديرها يحاول التحرّش بها، وصديقها السابق الذي أساء لها قبلاً، أساء لها مُجدداً ولكن بشكلٍ آخر حينما التقته صدفة، مما ينتج عنه شجار بينها وبين دين، الذي لم يغفر ارتباكها بخصوص ذلك الموقف الصعب. فتشاجرا، وحاولا أن يُصلحا الأمر، فساء أكثر، فظهر الغضب المكتوم لسنواتٍ على السطح، فساء الأمر أكثر وأكثر، حتى لم يعد يُجدي معه أية محاولات.
تفاصيل كثيرة، صغيرة وكبيرة، تعجّ بها حياة المُحبين، فتجعلهم في دائرة طرفاها الألم والسعادة، يتنقلون بينهما بشكلٍ مستمر، وهكذا..حتى ينتهي كل شيء.
ثم ينفجر اللغم..
ليطيح بكل شيء
فها هو دين في ناحية…
وها هما سيندي وفرانكي في ناحية أخرى..
قصة المنتصف..و الـ 6 سنوات الضائعة
دعونا نتخيل..
لا يُمكن لأحدنا أن يُجزم بما حدث في الست سنوات الضائعة، في الفترة ما بين زفاف دين وسيندي، وحتى اليوم الذي اكتشفا فيه اختفاء "ميجان" كلبة فرانكي، ولكن يُمكننا أن نتخيل بالطبع..
ترى ما الذي حدث في هذه السنوات الست؟
يُجيبنا كاتب الفيلم ومُخرجه Cianfrance عن هذا السؤال الذي يُوجهه له الكثير جداً من مشاهدي الفيلم قائلاً، بأنّه لا يوجد سبب واحد، وإنّما ملايين الأسباب، وفي نفس الوقت، كان الأمر مبنياً على المشاعر أكثر.
أمّا إجابتي أنا، فأرى أنّه لم يحدث شيء بعينه أيضاً، فقط حدثت حياة، لم يحدث حدث جلل، فقط دارت الحياة على دين وسيندي كما دارت على غيرهم.
كانت هناك عدة إشارات تُنذر بفشل هذه العلاقة منذ البداية، من ناحية التعليم والطموح المهني، إلا أنّ دين وسيندي استمرا بدافعٍ من الحب، الذي لم يكن كافياً أبدًا، ولن يكون في الواقع.
وجدت في هذا المقال الذي كتبه أحد الاختصاصيين النفسيين حول أسباب فشل العلاقة بين سيندي ودين، أسباباً منطقية فعلاً. ومنها أنّ احتياج سيندي الجارف للحب، والذي يحمله دين لها فعلاً، لم يُروِ للأسف، بفضل تصرفاته الطفولية التي لم تشعرها بأنّ بإمكانه احتواؤها كرجل ناضج، يستطيع أن يُزيل آلام معاناتها السابقة مع كل الرجال الذين خذلوها، وعلى رأسهم أبوها نفسه.
أحبّها دين بطريقته الصبيانية، التي لا تخلو من انتقادٍ، وإلحاح طفولي لخضوعها لرغباته، بغض النظر عما ترغب فيه هي، وبتحويله لكل نقاشٍ إلى مباراة يفوز فيها هو، لأنه من يلعب بالكلمات باحترافية أكثر.. بتخاذله عن تطوير نفسه.. وربما حتى بيديه التي تحمل آثار ألوان الدهانات، والتي لم يغسلها جيداً كما يبدو.
كل هذا لم يفهمه دين، ولم تصرح به سيندي أبدًا، فانعزلت بداخل نفسها، رافضة لذلك الحب الذي لم يمنحها الشيء الذي حُرمت منه ، ولم تُرد سواه.
انتهى الفيلم بانتهاء قصة الحب، ككل شيءٍ في هذه الحياة، إلى زوال، ولكن يتبقى لنا الدرس المُستفاد من هذا الفيلم، وهو أنّه لا دروس في الحب، ولا ضماناتٍ، وأنّه لا يُمكن التحقق منه فعلاً، إلا بالمرور عبر جحيمه، والخروج منه بسلامٍ وعافية، فمن منّا قد فعل؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.