الزهايمر أنساها كل شيء إلا أنا.. كيف بقيت حياً في ذاكرة جدتي؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/12/01 الساعة 11:19 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/12/01 الساعة 14:34 بتوقيت غرينتش

حين تركت مدينتي الأم منذ قرابة ثماني سنواتِ لم يكن يدور بخلدي أن الغياب سيطول إلى هذا الحد، إذ كنت شاباً نمطياً إلا من واجبات الثورة، الأخبار الصحفية، جلسات "قهوة آندريا" على النيل الليلية مع جماعة الحزب الناصري، ومهام كفالة اليتيم بمجمع الفردوس وزيارة قبر أبي علَّه يسامحني.

ولقد مَن الله عليّ بالأرق كي ألحق بصلاة الفجر يومياً في مسجد قريتنا الكبير لسنوات متعاقبة، كنت أدور في زوايا القرية قبيل الصلاة وحيداً أتلمس الحكايات وأتابع تغير ملامح القرية الفقيرة من مباني الطين القديمة وعربات الكارو إلى تراص المباني الخرسانية أكثر فأكثر.

بيت عائلتنا الكبير يجاور المسجد، كنت أنهي جولتيّ القروية فجراً أمام بيت العائلة، أطرق على شباك الغرفة المطلة على الشارع الرئيسي ثلاثاً حتى يأتيني صوت جدتي النَدي "حاضر يا قلب سِتك". 

دقائق وأسمع صوت خطواتها الثقيلة تخرج لي مستندة على الحائط تلف رأسها بـ"البشكير الأسود" ومن ثم تستند إلى يديّ كي أصطحبها للمسجد لصلاة الفجر. من بعد الصلاة كانت تتكئ عليّ ثانية بعد أن تُحيي أصدقائي أمام المسجد بوصلة دعاء، أصل بها أمام المنزل أفتح لها الباب وأتركها للدخول ومن ثم تعطيني وعاء مليئاً بالماء كي أسكب المياه في "قلل السبيل" أمام منزلنا ومن ثم أودعها وأنصرف. 

استمرت تلك العادة سنوات، لم أتأخر في الطرق على شباك غرفتها سنوات في الفجر ولم أترك يدها يوماً بعد الصلاة ولم ننسَ سوياً الاطمئنان على مستوى المياه في "قلل السبيل" أمام المنزل. 

وإن زرتها بعد صلاة عصر لم أتخلف عن وضع المصحف الكبير أمام يديها لتقرأ وردها اليومي من القرآن وإن زرتها بعد صلاة العشاء لم أمل أبداً من صنع كوب الشاي الثقيل بـ"معلقتي سكر" الذي تفضله وهي تجلس تحت شجرة العنب في مدخل المنزل.

وبعد ثماني سنوات من الغياب عن جدتي في صلاة الفجر، لم تعد تذهب المسجد فجراً. ذهبت يوماً، اثنين، شهراً كانت تبكي طويلاً بعد الصلاة أمام باب المسجد على غيابي، أصدقائي أخذوا بيدها بدلاً منّي للمنزل بعد كل فجرٍ.

حاولوا تسليتها، التهدئة من روعها وطمئنتها بأنني سأعود لكنني لم أعُد أبداً. 

بداية إصابة جدتي بالزهايمر كانت ذات فجر، حينما سألت أصدقائي: "هو أحمد ما جاش النهارده الفجر ليه يا ولاد؟!". 

ترك أصدقائي الصلاة في مسجد القرية الكبير تجنباً للقاء جدتي ومواجهة ألم سؤالها عني يومياً لماذا لم آتِ وأحضر لصلاة الفجر؟! ولماذا لم أطرق شباك غرفتها كي تتكئ عليّ ونذهب سوياً للمسجد؟ 

الزهايمر أخذ من جدتي كثيراً، نست أبناءها وأسماءهم من مات ومن على قيد الحياة. أخبرتني أمها أن جدتي سمعتني منذ أسبوع أطرق على شباك غرفتها وأنها خرجت معي لصلاة الفجر. وأنها اقسمت للجميع أنني عُدت وذهبت معها للفجر.. وحين لم يصدقها أحد خرجت تبكي كالطفلة وهي في سن التسعين أمام المنزل. حتى أشفق عليها جارنا صاحب المحل المقابل للمنزل "أبويوسف" وأكد لها أني عدت وأني بالفعل صحبتها لصلاة الفجر وحين أكد لها أنها رآني معها، أخرجت كل ما في جيب عباءتها من أموال ووزعتها على الأطفال في الشارع فرحة بعودتي. 

وإنها منذ أسبوع يومياً تخرج لأبويوسف وتوزع كل ما في جيبها من أموال على الأطفال فرحاً بعودتي وتأخذ أبويوسف شاهداً إلى المنزل ليؤكد يومياً لكل من في العائلة أنني عدت لأنهم ينفون وجودي. 

أنا في ذاكرة جدتي رغم منفايّ الإجباري، مازلت معها عند المسجد، نملأ "قلل السبيل" سوياً كل فجر.

أنا في وطن جدتي الصغير في مئة متر بين المسجد والمنزل.

أنا الشخص الوحيد الذي تغلب على زهايمر جدتي وتبقى في ذاكرتها، وأنا خديعة أطفال الشارع لها كي يحصلوا على ثمن حلو عودتي الزائفة منها. 

شكراً يا وطن المئة متر أنك أبقيتني في ذاكرة جدتي.. جدتي يا وطن طفولتي ومراهقتي وسنين شبابي الأول آسف أني غبت عنكِ وعن الفجر وعن صحبتكِ في لعنة المنفى الإجباري هذا. 

في كل ليلة أحدث نفسي بالعودة لحضرتكِ تحت شجرة العنب لأغني لكِ وأنت تسندين رأسك على الحائط غافية، وأن أطرد من رأسكِ الخوف على الأحفاد وألم غيابي وأطرد منّي الخوف على الوطن الأكبر الذي أرسلني بعيداً عنكِ كي أجلس في حضرة وطنك الصغير بلا غياب. 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد الطوخي
صحفي مصري
صحفي مصري
تحميل المزيد