سيرة ذاتية فريدة ونقل للحقيقة الكاملة دون تزييف.. قراءة في “المكتوب على جبين” المفكر جلال أمين

عربي بوست
تم النشر: 2020/11/03 الساعة 09:05 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/11/03 الساعة 14:39 بتوقيت غرينتش
المفكر المصري جلال أمين

قليلون هم الكتاب القادرون على الأخذ بالقارئ أسيراً بشباكهم، يُسحر بأسلوبه منذ الصفحة الأولى إلى أن ينتهي مما يريد قوله؛ الذي ترغب لو أنه استمر أكثر، ولا يأخذك بعيداً عنه سوى أن الكتاب انتهى. المفكر المصري جلال أمين ينتمي لهؤلاء الكتاب المصطفين، يصوغ تأملاته وأسئلته مازجاً التجربة الشخصية بالمواضيع العامة والأفكار المجردة، بأسلوب جميل أصيل. وهذا ما جعل سيرته الذاتية عذبة، ذكرتني بالقراءة للأديب الروسي أنطوان تشيخوف لما تتسم به من بساطة وعدم تكلف.

عرفت المفكر المصري جلال أمين للمرة الأولى عبر والدي، ذكره لأكثر من مرة في حديث قديم، ثم وفرت لي مكتبته قراءة "ماذا حدث للمصريين؟" و"عصر الجماهير الغفيرة". وكان اللقاء الثالث عبر بوابة "مكتوب على الجبين" الجزء الثالث من سيرته الذاتية، التي حاول فيها، على حد تعبيره، قول "الحقيقة كاملة" إذ يجد الانصراف عنها أمراً مؤسفاً من كل ناحية. وهذا ذكرني بمقولة ييتس بأن الإنسان يحتاج إلى شجاعة جسور ليغور في أعماق ذاته. وأظن أن قمة الشجاعة هي عرض ما توصل له من استنتاجات عنه وعن المحيطين به على مرأى ومسمع الجميع.

"هذا الاعتقاد القوي لدي، بأننا نقضي حياتنا ونكتب الكتب دون أن نقول إلا جزءاً صغيراً من الحقيقة، هو أحد الدوافع التي تدفعني إلى كتابة هذه الحكايات". مكتوب على الجبين، ص 10. طباعة دار الكرمة للنشر.

يستكمل الكاتب السيرة الذاتية التي قدم الجزء الأول منها في "ماذا علمتني الحياة؟" والجزء الثاني في "رحيق العمر" ليضيف في المكتوب على الجبين خمسة فصول استكملت سرد أبرز المحطات التي مر عليها، وبعض الشخصيات التي مثلت لغزاً له؛ ليس لأنه لم يعرفهم، بل لأنه اختلط بهم، وشاركوا في جزء كبير من حياته. وكانت معرفته لتناقض النفس البشرية وشخصيات البشر المركبة مصدراً للبحث عن كنه تصرفاتهم، وذخيرته في تحليل وسبر أغوار الشخصيات. فاستكمل في كتابه حديثه عن أسرته، أمه ووالده الكاتب أحمد أمين وإخوته السبعة، بالإضافة لبعض الشخصيات المعروفة لجمهور القراء. ذكر أسماء بعضهم، لكنه ترفع عن تعريف من تحدث الكتاب عن مساوئهم؛ فتعمد إخفاء أسمائهم.

حين تجاوز عالم الاقتصاد البريطاني ليونيل روبنز عامه الثمانين، لوحظ اهتمامه بالجوانب الشخصية أكثر من أي وقت مضى، أصبح يدلل على النظريات والأفكار المجردة بالحاجة لإقحام تجارب خاصة ومشاعر شخصية للتدليل على ما يقول. ويبدو أن المزج بين العام والخاص لم يزعج جلال أمين؛ إذ إنه حين استذكر أساتذته ومن حضر محاضراتهم، وجد أن قلة منهم أثروا فيه، وتركوا انطباعاً في ذاكرته حتى بعد بلوغه الثمانين، هؤلاء من استطاعوا الخلط بين التجارب الشخصية والنظريات، ودللوا على أفكارهم بتجارب مروا بها. وهذا ما استطاع تقديمه في سيرته الذاتية، كما فعله أثناء تدريسه الاقتصاد في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، فقدم خلاصته الفكرية على شكل قصة، تستخلص منها الدروس، وتستشف الفرق بين حال المصريين والاقتصاد العالمي عبر ثلاثة أجيال مختلفة، جيل والده أحمد أمين، وجيله، وجيل أبنائه ومرور كل منهم على حقب مختلفة من تاريخ الإمبريالية العالمية بوجه عام والمجتمع المصري بشكل خاص.

كانت المشقة الوحيدة أثناء قرائتي، لا تتعلق بالكتاب بشكل مباشر، بل في محاولتي النأي عن إسقاط الشخصيات التي تحدث عنها الكاتب بأخرى في حياتي الواقعية، فالكتاب لا يحمل صوراً خيالية، على العكس، يقدم نماذج يمكن لأي منا الاحتكاك بها مباشرة في الحياة. خصص جلال أمين بعض الصفحات للحديث عن عصفورة، خادم في منزلهم، تمسكت والدته باستمراره ولم يترك العمل منذ تسلمه حتى تعرضه للقتل. جاء ذكره بالصفات الحميدة التي تمتع بها، وقدرته وهو عامل بسيط عند الأسرة أن يقرض أفرادها إن طلبوا منه سلفة، رأيت الموقف في حياتي الواقعية، وللمصادفة كان من يقترض من فراش أيضاً دكتوراً جامعياً مثل شقيق جلال أمين.

يشبه جلال أمين كتابته لسيرته الذاتية بمثال اقتبسه من الأديب العبقري نجيب محفوظ؛ إذ يتخذ من الراكب المتجه بالقطار من القاهرة إلى الإسكندرية أنموذجاً، ينشغل الراكب بأمور عديدة، يطلع على مجلة أو يقرأ كتاباً أو يحادث أحدهم، وحينما يتوقف القطار في محطة سيدي جابر، تلك المحطة الصغيرة التي تشير إلى قرب محطته الأخيرة للقطار، يلملم أشياءه وينظم حاجاته وحقائبه، وهذا هو وضع من اقترب من الثمانين آنذاك، وأوشك على الوصول إلى محطته الأخيرة، يتأكد أنه لم يترك شيئاً خلفه؛ فكل ما يمكن قوله قد أتمه، وما كان يفعله فرغ منه للتأمين على حاجته. وفي حالة الكاتب هي الأفكار والرؤى والذكريات والمواقف الزاخرة التي يود التعبير عنها قبل أن يصمت ويجف قلمه. "المعرفة ليست عملية إضافة معلومات جديدة، بل هي في الواقع عملية استبعاد بعض المعلومات من الكمية الضخمة من المعلومات المطروحة عليك". 

 ماذا علمني جلال أمين؟

كنت أعددت منذ فترة لكتابة مقال طويل بعنوان ماذا علمني جلال أمين؟ تأجلت الفكرة، وأظن أن العنوان الرئيسي الذي كان سيندرج أسفل باقي العناوين، أني تعلمت من جلال أمين الاختلاف مع جلال أمين. وهذا حدث في موضعين من الكتاب. قدم كتاب المكتوب على الجبين قصة صديقته الإنجليزية التي تزوجت من عربي، مثل حالته مع زوجته تماماً. عملت الصديقة بتدريس مادة الأنثروبولوجيا بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، سرقت الأنظار بأنوثتها وملامحها الجميلة الطاغية، التي لم تدخر جهداً لإخفائها، لأنها كما أشار تمتعت بقدر كبير من الخجل والحياء، لم تحب الظهور وأرادت التواري عن الأنظار وعدم لفت الانتباه. تمتعت بقدر عالٍ من الحياء وإنكار الذات، جعلها تتصرف بناء على ما ذكره الكاتب بناء على الواجب والالتزامات الاجتماعية بدلاً من الرغبات الشخصية، لكن تلك الصفات لم تشكل عائقاً أمام تعبيرها عن خلجات نفسها وأفكارها وما تكنه بقوة وبلا تردد، إلا أنه حال دون إساءتها لشعور أي شخص، حتى أنها كانت تنظر بعيداً أو إلى الأرض لكتم عواطفها إن تعرضت لأي مما يضايقها.

لم ترزق صديقته بأطفال، وكان ذلك السبب الواضح للانفصال عن زوجها اليمني ذي الأصول الكينية. يشير الكاتب في الفصل الذي حمل عنوان "الشعور بالذنب" إلى أن صديقته تبنت ثلاثة أطفال من كينيا؛ إذ لم تنقطع علاقتها بأقارب زوجها، وفضلت تربية أطفال سمر لإيمانها بالمساواة ودرء الأفكار العنصرية التي تعمل على التفرقة بين البشر. في ختام الفصل يشير جلال أمين إلى فشل اثنين من الذكور المتبنين في التعليم، وولادة البنت لطفل لا تعرف أباه، وهو ما حلله الكاتب لأن الجينات هي العامل الرئيسي في تشكيل صفات الإنسان، وأن البيئة والتربية والعوامل الاقتصادية ليست هي الركيزة الأولى لنبوغ أو تدني مصير الفرد.

"كنت دائما أميل إلى الشك فيما تستطيع أن تفعله البيئة الصالحة والتربية الجيدة إذا لم يكن لدى الطفل الاستعداد الطبيعي اللازم، إذ كنت أكثر ميلاً دائماً إلى الاعتقاد بأن للوراثة والجينات أثراً أكبر بكثير من الظن الشائع" جلال أمين.

ادخرت صديقته باقي حياتها لتربية حفيدها من التبني، الذي لم تعرف أباه، ولم يكن من دمها، فلم تجبر على هذا، إلا أنها فضلت تربيته ومشقة التعامل مع طفل لأنه، وفقاً لما وضعه في عنوان الفصل، وما توصل له من نتيجة نهائية، أنها شعرت بالذنب تجاه خطأ لم ترتكبه، دون أي يطلب منها أحد هذا. لم يعرض جلال أمين القصة كاملة، إذ إنه اكتفى بسرد صفات صديقته كما رآها، واستنتج فشل أولادها بالتبني من طبيعة جيناتهم فقط، لأنهم وفقاً لقصته سافروا من كينيا الأفريقية إلى إنجلترا الأوروبية ولم يحققوا أي نجاح يذكر. تغاطى الكاتب عن دور الأم في التربية، عن مئات المواقف التي يمكن أن تساهم في هذا المصير، لم نعرف على أي أساس ذكر جلال أمين فشلهم، رأينا فقط قصة مليئة بالفجوات والثغرات، تشكك في ما توصل له الكاتب من استنتاج. وكان من الأفضل ألا يأتي على ذكر رأي يعلله بالجينات فقط؛ فالمتبنون لم ينتموا لنفس الأب والأم ولم يجمعهم سوى أنهم سمر من كينينا تبنتهم سيدة بريطانية. 

أشار جلال أمين أيضاً للعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج والمثلية الجنسية، ضمن الأشياء التي يود المجتمع الشرقي استيرادها وتطبيقها أسوة بالغرب. في حين أن المجتمع الأوروبي والأمريكي يتخذ بعض المظاهر، ثم يعدل عنها ويتجاوزها إن ثبت فشلها. لم أرى أي منطقية في هذا الربط بين المجال العلمي والتكنولوجي، الذي يعمل بالأساس على التجربة واستكشاف الأخطاء لتعديلها وتطوير أشكال جديدة منها تفيد مآرب البحث سواء على الصعيد العملي والتكنولوجي أو الربح والنوازع الشخصية على الصعيد الاقتصادي والهيكلة العامة للعولمة ورأس المال، وبين مظاهر الحياة العامة التي تتسم بالحرية وحق الفرد في ممارسة حياته بالشكل الذي يريد، دون تجاوز الخط الفاصل بينه وبين حقوق الآخرين. 

العبقرية الخالصة

إن قيمة جلال أمين تنبع من قيمة المفكر المؤمن بعدم وجود حقيقة حتمية، ما نتعامل معه هو وجهات نظر، أفكار، تقبل الرد والتعديل بالإضافة والحذف، لا ينكر أحد يملك عقلاً قيمته كمفكر أسهم في الفكر والثقافة العربية، لكنه يعرض ما يراه بناء على تجربته وتحليله للأمور. وذلك يعني أننا نتعامل مع أفكار تبقى صالحة للمؤلف نقبل منها ما نريد ونتغاضى عما نريد أيضاً. 

"المعرفة ليست عملية إضافة معلومات جديدة، بل هي في الواقع عملية استبعاد بعض المعلومات من الكمية الضخمة من المعلومات المطروحة عليك" جلال أمين.

جلال أمين كمفكر وكاتب مصري أقل ما يوصف به العبقرية والإخلاص التام لما آمن به. والحقيقة أن سيرته الذاتية زاخرة بالأمثلة والحكايات والدروس والأفكار الكثيرة. تجارب شخصية عاشها المؤلف وتوغل فيها بكتابتها، نعرف منه أكثر عن حياته ومشاعره، مما يجعل قراءتها أكثر إنسانية وواقعية. عرضها الكاتب كلوحة فنية أو مقطوعة موسيقية خالدة، تتوقف أمامها فتتشبع بالجمال وترتوي بتجارب كالماء العذب بعد سفر شاق في صحراء جدباء. 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد أشرف
كاتب وقاص مصري
كاتب وقاص مصري مهتم بالثقافة العربية وعلم الاجتماع وتقاطعاتهما مع عالم الرياضة
تحميل المزيد