احتجاز في القاهرة.. كيف واجهت ما لم أتوقعه؟

عدد القراءات
1,032
عربي بوست
تم النشر: 2020/07/01 الساعة 09:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/07/01 الساعة 10:12 بتوقيت غرينتش
احتجاز في القاهرة.. كيف واجهت ما لم أتوقعه؟

من الظهيرة وحتى غروب الشمس، تملأ الطائرات الورقية سماء القاهرة. إذ بدأ الأطفال في اللعب بالطائرات الورقية لأنّ المدارس مُغلقةٌ منذ شهور. كما أُغلقت المساحات الخضراء القليلة الموجودة داخل المدينة، وقلّ المرور في الشوارع والأرصفة المزدحمة عادةً، لكن سماوات المدينة تزداد ازدحاماً يوماً بعد يوم.

تطورت الأحداث بسرعةٍ هنا. كُنت في القاهرة حين ظهرت أولى حالات الإصابة بفيروس كورونا على متن السفن السياحية في شهر مارس/آذار الماضي. ولم تكُن هناك مداولات أو نقاشات مُطوّلة حول ما إذا كان سيتم إغلاق البلاد أم لا، ولم يتقدم العلماء بأي نداءات أو مطالبات، بمجرد تأكيد وصول كوفيد-19 إلى البلاد؛ فرضت الحكومة حالة إغلاقٍ جزئي وأغلقت كافة المطارات.

وفي الأسابيع الأولى من دخولها عصر الوباء بدا وكأنّ البلاد تتحسّس خطواتها، مع محاولة القاهرة التكيّف مع العيش بنصف سرعتها. في البداية، لم يعلم أحدٌ تحديداً ما الذي سيبقى مفتوحاً، أو نوعية الأنشطة المسموحة، أو مدى صرامة تطبيق القيود المفروضة. فأُمرت كافة المطاعم والمقاهي بالإغلاق. ولكن إذا مشيت في شارعٍ جانبي ضيق بعيداً عن الطرق الرئيسية التي تعج بالشرطة، فسوف تعثر في مقهى صغير حيث يواصل المترددون عليه التدخين وتناول المشروبات.

رحلة اضطرارية

تمشّيت كثيراً منذ بدأت حالة الإغلاق في القاهرة، المدينة التي أحفظها عن ظهر قلب. سرت إلى الجامعة هنا، وزرت مختلف أفراد عائلتي الذين عاشوا ودرسوا هنا على مرّ السنوات.

هذه هي أطول فترة قضيتها داخل المدينة منذ أكثر من عقدين، لذا تتبّعت بخطواتي مساراتي السابقة. إذ مررت بجوار سكني الجامعي القديم، والمتاجر الصغيرة التي اعتدت شراء وجباتي الخفيفة منها، والمقاهي، واستراحات الطلاب، وجميعها مغلقةً الآن.

ما تزال الكثير من تجاعيد وجه المدينة التي أعرفها قائمةً حتى الآن، لكن اللباب يُحيط جدرانها المتصدعة، بينما تملأ القطط حطام المساحات المتآكلة منذ عقود. في حين هُجِرَت الكثير من المنازل القديمة الضخمة التي اعتدت رؤيتها في مراهقتي، حيث كانت تتلألأ داخلها الثريات العتيقة أعلى الأعمدة العثمانية الرخامية. وباتت نوافذها الآن معتمةً وجوفاء، مع مداخل مفتوحة وخاوية. وهذه المباني أغلى من أن تُهدم، ولكنها متداعيةٌ بدرجةٍ لا تحتمل الترميم.

ورغم أنّها لا تبدو جذّابة للمارة على الإطلاق، لكن تلك الأصداف الفارغة تخضع لحماية شرسة من أوصياء مقيمين. وليس بها شيءٌ يستحق السرقة بالطبع. لكن عودتي إلى مدينةٍ تختلف تماماً عن تلك التي تركتها قبل سنوات دفعتني إلى التفكير في أنّ الأمر يحمل معنى أعمق في طياته. إذ كانت هنا قاهرة، ومصر، فقدناهما إلى الأبد -بسبب الفساد والفقر وفشل الثورة وانتقال الأثرياء إلى أجزاء جديدة من المدينة- لكن جثتها ما تزال خاضعةً لحراسةٍ مُشدّدة في انتظار القيامة.

بينما يُحارب ما تبقى من المدينة، وينجح أحياناً، ضد جائحة عالمية وسط أوضاع لا يملك الملايين داخلها خيار التباعد الاجتماعي، ولا تستطيع المنظومة الصحية احتمال ضغط الحالات الكبير.

كانت مصر بالنسبة لي -والكثير من السودانيين الذين يستطيعون توفير المال- أشبه بالملاذ، والأخت الكبرى الأكثر إنجازاً لوطني الأم السودان. ولطالما حملت مصر ثقلاً أكثر من طاقتها في ما يتعلّق بالتعليم والرعاية الطبية، وظلت تفعل ذلك مرةً أخرى رغم قلة مواردها. وبينما كنت أكتب عن المملكة المتحدة، حيث كان الناس يتشاحنون حيال الإغلاق وتسطيح المنحنى، كانت اللوحات الإعلانية قد انتصبت هنا وبدأت الرسائل النصية تصلنا لمطالبتنا بالبقاء في المنزل.

ولكنّها مهمةٌ مستحيلة.. لقد تحوّلت الشوارع إلى مواقف للسيارات، حيث تحايل الأحباب والأزواج للخروج في مواعيد بسياراتهم بعد إغلاق كافة الأماكن العامة التي كانوا يلتقون داخلها. ويُشار إليهم بمزاح على أنّهم "أزواج الكورونا".

خلال شهر رمضان، انتقلت الصلوات الجماعية إلى الأرصفة بعد إغلاق المساجد. وكان شهر الصيام هو الشهر الأصعب في فترة الإغلاق. وكُلِّف الفقراء بتلبية حاجات الأغنياء كما حدث في كافة أنحاء العالم. إذ يوصل العاملون الرئيسيون، الذين يرتدون الأقنعة، العالم إلى عتبة باب المحتمين في منازلهم، قبل أن يعودوا إلى التجمع في الخارج مع أمثالهم من الفقراء. أربكتني مشاهدة مدينة ضخمة مترامية الأطراف مثل القاهرة وهي تتقلّص، لكن حدوث ذلك خلال شهر رمضان تحديداً منحني شعوراً بالحزن العميق. إذ كان إلغاء كافة الجوانب الاجتماعية خلال الشهر الكريم للمرة الأولى منذ أجيال هو خير دليل على مدى تأثير الفيروس على الحياة الطبيعية.

كانت حالة الإغلاق أكثر صرامة في بعض الأوقات، مع بدء حظر التجوّل في السادسة مساءً، لذا كُنت أمارس رياضة المشي في الصباح. وبدأت أشعر أنّ مساحة التعايش مع إحساس الكارثة تتضاءل، بالتزامن مع تقلّص الحياة وزيادة أعداد الحالات وإصابة أفراد العائلة والأصدقاء. ولم يعُد أمامي سوى الشعور بالحزن وحتمية الخسارة.

أطارد نفسي

لم أكُن سعيدة بالوقت الذي قضيته في القاهرة وأنا أصغر سناً، وقد لازمتني تلك التجربة طيلة حياتي. إذ أذكر أنّني كنت أتوق لأكبر في السن، وأصير حرة، وأرسم مساري بعيداً عن منزلي المُقيِّد وعائلتي المُتطفّلة. ولكن في ظل الجائحة الآن، بدا وكأن كل ما كنت أرغب في الفرار منه منحني راحةً لا تقدّر بثمن. وكلما مشيت بين أرجاء حياتي القديمة أكثر؛ بدأت أشعر وكأنّني أُطارد نفسي أو كأنّ نفسي القديمة تُطاردني -لست متأكّدة. ومع حصري لكامل الخسائر، خسائري وخسائر البلد الذي أحببته؛ بدا أنّ أعداد الطائرات الورقية تزداد في السماء، لتُحلِّق عالياً وبجرأةٍ أكبر فوق سماوات القاهرة. وربما اعتقدت أنّني رسمت مساراً مستقيماً، ولكن تبيّن أنّ ذلك المسار كان عبارةً عن دائرة عادت بي من حيث بدأت.

– هذا الموضوع مُترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

نسرين مالك
كاتبة صحفية
كاتبة صحفية وعملت سابقًا في أسواق الأسهم الخاصة
تحميل المزيد