على درج في شارع الرينبو.. كيف أخلو إلى نفسي وأجدد حياتي؟ ‎

عربي بوست
تم النشر: 2020/05/30 الساعة 12:56 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/05/30 الساعة 12:57 بتوقيت غرينتش
على درج في شارع الرينبو.. كيف أخلو إلى نفسي وأجدد حياتي؟ - Blaine Harrington

ما زلت أتذكر ذلك اليوم الماطر الذي اختلفت فيه مع الشركة المعمارية التي كنت أعمل لحسابها، وقرَّرت أن أتقدم باستقالتي على الفور، خرجت مسرعة إلى الشارع، وأوقفت عربة أجرة وقلت له: إلى شارع الرينبو لو سمحت.

نزلتُ من التاكسي بعد قرابة النصف الساعة في ذلك الشارع المغطى ببلاط الإنترلوك ذي اللون الرمادي الغامق، لكن هذا هو الشارع الرئيسي، وليس مبتغاي أن أصل له، إلا أن هناك شارعاً فرعياً يلخص بالنسبة لي كل معاني وسيرة حياتي؛ لأن ما إن أخطو فيه أول خطوة فإنني أدخل في عزلة عن هذا العالم، وأمشي فيه بروية وهدوء، ولا أكاد أسمع أي شيء حولي سوى صوت خطواتي البطيئة تدوس على أرضية من قطع البلاط. أبعاد القطعة الواحدة هي 15 سنتيمتراً طولاً ومثلها عرضاً. ويبلغ عرض الشارع خمسة أمتار يقسمه بالنصف ممر مكون من نوع مختلف من البلاط الذي يميل إلى اللون الأحمر الفاتح، وعلى جانبي هذا الشارع ستجد العراقة والتراث والتاريخ كله، ببيوت عمان الحجرية القديمة المزينة بنوافذها ذات العقود المدببة والمكسية بحجر الطبزة القديم، الذي قد أخذ لوناً يميل إلى الصفار على مرِّ الزمان والذي يحمل بين رسومات عروقه قصص أصحاب من سكنوه قديماً. إلا أن هذه البيوت هجرها أصحابها منذ زمن، وباتت تباع في المزادات وأصحابها هم أصحاب رؤوس الأموال، الذين لا يأتون إليها إلا في المواسم والإجازات، هذا إن جاؤوا. فتراها -أي البيوت- حزينة، وكأنها تنادي على من هجرها وتتحسر على ماضيها العظيم.

وما إن تصل إلى نهاية هذا الشارع حتى تجد درجاً طويلاً كأدراج مدينة عمان -أو ربة عمون كما أحب تسميتها- تلك الأدراج الجبلية التي لطالما رسمت هوية المدينة، درج طويل يسنده من جهة جدار حجري مرتفع تابع لأحد المنازل القديمة في المنطقة، ومن الجهة الأخرى شبك حديدي يفصل منحدراً جبلياً أخضر عن الدرج، وما إن تصل لمنتصف الدرج حتى تجد على يمينك فسحة بقرابة المترين، وعليها مصطبة من الإسمنت بإمكانك الجلوس عليها.

وأما أنا فما إن أصل لذلك الدرج حتى أقوم بإغلاق هاتفي المحمول وأضع حقيبتي على المصطبة وأجلس على الدرج لساعات وساعات أتفكر في حال الدنيا. وأحياناً أخرى أتفكر في حياتي، وأحياناً أضع بعض الخطط، أو تراني أبكي إذا ما كنت حزينة، أو أبحث في ذكريات الحياة وأرثي الماضي وأمدح الإنجازات وأبغض المواقف وأتساءل عن القدر. هكذا حتى أشعر بأنني اكتفيت من تأملي واعتكافي مع نفسي فأقرر أن أنهي رحلتي بمعتكفي الآخر وهو المبنى الذي يقبع أمام هذا الدرج، لا يمكنني أن أسميه بالمقهى أو المطعم، لأنه مختلف عن كل ذلك، إنه مكان لا يمكنني وصفه ببضع كلمات، إنه السحر كله، إنه المنفذ لعالمي.

يبدأ مدخل هذا المكان بعد أن تنزل الدرج الطويل فتجد شارعاً أمامك، تقوم بقطع الشارع فتجد نفسك على مدخله، عليك عبور جسر معلق حتى تجد نفسك داخل المبنى؛ لأنه مقام على منحدر عميق جداً، فترى المبنى وكأنه معلق وكل ما أسفله هو فراغ. تدخل المبنى فتجد طاولة الاستقبال وعليها قسائم لدليل سياحي عن أهم المناطق السياحية في المنطقة، تتجه يساراً فتجد متجراً يبيع التحف الفنية وقطع الإكسسوارات التراثية الثمينة، تنزل بضع درجات فتجد قاعة تغلفها النوافذ الزجاجية على كل الجهات ليتحد هذا الفراغ مع الطبيعة خارجه، ويتوسط هذه القاعة موقد خشبي كبير غالباً ما تجد النار تضرم فيه أيام الشتاء الباردة. وفي نهاية القاعة ستجد درجاً آخر ينزل بك إلى قاعة أخرى أو قاعتين بالأحرى يفصلهما ثلاث درجات فقط. القاعة الأولى تسحرك بإطلالتها وهي تستقبلك بالكاونتر الخشبي الكبير المعاد تدويره من الأخشاب المستخدمة في البناء، ويزينه من الأعلى مرطبانات زجاجية تحتوي على لمبات إضاءة فلورسنت. وما إن تنزل البضع درجات ستجد المكان الذي إذا ما فقدتني يوماً ما ستجدني أجلس فيه، ركن منعزل عن العالم الوهمي الذي نعيش فيه، هناك فقط أجد الحقيقة الوحيدة في حياتي.

هناك في ذاك لركن من المكان تحديداً، ستجد الجلسات موزعة على يمينك من أريكات ثلاثية المقاعد حيث كل اثنتين يتقابلن ويفصلهما طاولة وسطية ذات سطح رخامي أسود مصقول، وأما على الجانب الآخر فطاولات وكراسي، والجميل أنك هنا لن تجد الجدران في المكان، فقط أبواب زجاجية تغطي الواجهات ليكون المرء محاطاً بكل الطبيعة والإطلالة الخارجية من جبال ربة عمون الحبيبة.

أتخذ موقعي تحديداً في آخر أريكة في المكان، وأجلس مقابل النافذة بكل عنفوان وكأنني أملك المكان، وكأننا عبر تلك الأوقات الكثيرة قد توحدنا فصرنا جزءاً واحداً، وها هو جبل القلعة أمامي من بعيد وكأنه يخبرني أن كل شيء سيكون على ما يرام وأن كل شيء هو قابل لإعادة التدوير والاستصلاح والمحاولة تماماً كما كل شيء في هذا المكان الذي سأظل أعتبره المدرسة المعمارية الأولى لي في تخصصي والملجأ والمعتكف الوحيد لي في حياتي، وحافظ الذكريات والأحلام والشغف.

وأخيراً يأتي النادل لي ويسألني: كالعادة؟

فأجيبه: أجل، مثل كل مرة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مرح سليمان
معمارية وكاتبة
تحميل المزيد