"هل ستحكين لنا حكايتك؟ أيتها المدينة المقنعة التي تخفين وجهك عنا -نحن أبناءك- هل سيرقص الأحياء والأموات معاً في لياليك؟ لماذا هي طويله ليلة سهرنا؟ هل ستتركيني أعرف أنني من هنا، أحس بأنني من هنا، مولود هنا".
بكلمات هذه الأغنية يستهل الكاتب الأوروغوياني إدواردو غاليانو الفصل الأول من رواية "الأغنية التي لنا"، يناجي فيها المدينة الذي ظلَّ منفياً عنها لسنوات، فبعد تفشِّي الخوف والجوع في أرجائها بسبب الحصار الخانق التي تفرضه السلطة عليها، يسألها إن كانت ستعود من جديد لأبنائها وتحكي حكايتها.
ونحن أيضاً، الآن، نسأل مدننا: هل ستعود إلينا كما عهدناها، هل سنحتضن شوارعها بدون كمامات ومطهرات، هل ستتحرر من سطوة الوباء؟
في عالم كنا نعتقد أننا قادرون على التحكم في كل صغيرة وكبيرة فيه، ينتشر فيروس كورونا ليجبرنا على عيش نمط حياة غير مألوف. يشتد الخناق على الناس ويلزمها منازلها مهددها بالعلة والهلاك لها ولمدنها. شهد العالم كله كيف تحوَّلت مدينة ووهان إلى مدينة أشباح بعد ظهوره لأول مرة، لم يكترث كُثر واستبعد سكان بلاد العالم المختلفة وصول الفيروس إليهم، كل منهم آمَن بذلك بمقدار بُعده من الصين.
وأنا أيضاً لم أتوقع قدومه، إلا عندما حلَّ ضيفاً ثقيلاً على تركيا في بداية شهر مارس/آذار، فما لبثنا إلا وأجبر الصمت على معظم المدن بما فيها العاصمة "أنقرة" حيث أعيش.
منذ وفودي إليها للدراسة، كانت أنقرة على عكس معظم عواصم العالم لم تحظَ المدينة بطابع صاخب، لطالما عُرفت بالهدوء إلى حد الرتابة، إلا أن هذا الهدوء تحوَّل إلى سكون مليء بالخوف والارتياب بسبب هذا الوباء الذي فرض على الحكومة تعطيل الحياة.
شخصياً، بدأت الشعور بتوقف الحياة والالتفات لحجم الكارثة بعد إعلان الموقف الرسمي لتركيا. فالحياة كانت مستمرة حتى أُلغي سفر فريقنا إلى مدينة أنطاليا للمشاركة في بطولة الدرجة الأولى من دوري الجامعات لكرة القدم، حيث أعلنت الحكومة عن توقف الدراسة لمدة ثلاثة أسابيع فقط، من ثم إلى أجل غير مسمى، من ثَم استكمالها عن طريق الإنترنت.
لم تتوقف حياتي الدراسية فحسب، بل تعطل شغفي أيضاً، فقد توقف دوري كرة قدم الصالات فلم أعد ألتقي فريقي "عائلتي" لا في فريق الجامعة ولا في النادي الذي نلعب له سوياً أيضاً كمحترفين خارج الجامعة. سلب منّي الكثير هذا الوباء، سلب منِّي ما لم نتوقع فقدانه.. كرة القدم كانت فرشاة للرسم في الغربة، أداتي لمعرفة ذاتي والعالم. هذه هي كرة القدم بالنسبة لي منذ أن أهدتني أمي كتاباً بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني، لتشجعني على القراءة كعادتها، ولتبعدني عن تأثري بالأحداث قليلاً، ونظراً لممارستي وشغفي بكرة القدم، كان الكتاب تحت عنوان "كرة القدم بين الشمس والظل". وللمصادفة، يكون هذا الكتاب بجانب الثورة، ما يدفعني لدراسة العلوم السياسية وزيادة الاهتمام بالقضايا الإنسانية. فقد تناول الكتاب كرة القدم بشكل فلسفي، فاستطاع الكاتب إدواردو غاليانو مزج كرة القدم بالحياة، فتتجلى علاقتها مع الثورة والحروب والاستبداد والعنصرية والطبقية. جعل كرة القدم تخرج الجمال من قبح العالم كما الأدب الذي توطدت علاقتي به هو الطبخ خلال الحجر الصحي الحالي.
سأقضي رمضاني الرابع في تركيا جالساً بالسكن الجامعي مجدداً. غرفتي لا تتعدى الثلاثة أمتار عرضاً لكنها جيدة، تسعني لشرب الشاي مع صديقي في الليل. وهو أيضاً مع باقي أصدقائي في السكن ضحايا تجاربي الجديدة في المطبخ. يستهلك عمل الإفطار خلال الشهر الكريم أغلب حديثي مع أمي وأختي فبعض مقادير الطبخ تعكس ثقافة البلد ولسد اشتياقي أحاول الالتزام بها، لكنني لم أتقن الوصفات بعد. على كلّ نفرغ من الإفطار، وبعد جدال على قضية غسل الصحون، نحتسي الشاي بالنعناع بجانب البقلاوة -إن وُجدت- أو القطايف، إن صُنعت. ورغم قلة الأحداث داخل الحجر الصحي، فإننا نخلق الجدالات والمشاكل اليومية مصحوبة بالضحكات على غسل الصحون وتنظيف الطاولات وتحضير الإفطار قبل المغرب وكيفية الاقتصاد في استخدام الزيت والبهارات. نحاول أن نتجاهل رعب أننا قد لا نرى الحياة قريباً كما اعتدناها، ونحن أيضاً لن نعود كما قبل، فما يفرضه الحجر الصحي من وحدة له على النفس أثر كبير.
يقول المخرج الفرنسي الشهير جون لوك غودار: "إن العزلة ليست هي الوحدة، ففي الوحدة لا نكون وحيدين مع ذواتنا أبداً".
ولزيادة الوحدة التي خصَّصها الحجر الصحي، أُعيد التفكير بأمور حسبتها مفهومة ضمناً، ففوجئت أنني لم أعطِها المساحة التي تستحق. مثلاً كنت أشعر كثيراً بالعزلة قبل ظهور هذا الفيروس، فغالباً ما كان يصفني أصحابي بالحالم الذي سيهلك، لكن بعد ظهوره قلَّ هذا الشعور فليس أصدقائي فقط بل العالم يشاركني الاهتمام بالمشاعر الإنسانية وما تجلبه الروايات من معانٍ نبيلة، فهي ما بقيت صامدة في عصر قلما يعطينا الفرصه إلا في التفكير في ذاتنا.
قد ذكر الفيلسوف الفرنسي الجزائري كامو أن كل ما تعلمه من أخلاق يدين به إلى كره القدم، وليس هذا فقط ما تشاركه معه، فأثناء الحجر الصحي تناولت إعادة قراءة روايه "الطاعون" والذي طرح فيها أهمية النبل الإنساني، مؤكداً أن التضامن الاجتماعي والتكاتف بين البشر هما الأداة الوحيد للنجاة من الطاعون الذي اجتاح مدينة وهران. وقد جاء الطاعون ليس للقضاء على البشر، بل على الأنانية التي تفشَّت قبل ظهوره. وما أشبه رواية البارحة باليوم. لعل اللجوء إلى الأدب والتفكير والفلسفة يجعلك تعثر على سلام روحي في خضم الحياة، لكنه ليس كافياً للحياة.
يحاصرنا واقع لا نجيد قراءته، فلا نعلم متى ستفتح المدن أبوابها كالسابق، حتى بعدما أعلنت الحكومة في تركيا عن عودة الحياة تدريجياً إلى طبيعتها، إلا أنها لا تشبه الحياة التي طالما عهدناها ولا المدينة التي شهدناها. فكيف هي الحياة من خلال كلمات تخرج من وراء الكمامات.. يقول محمود درويش: "الحياة التي لا تعرف إلا بضد هو الموت… ليست حياة".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.