مذكرات طبيب سعودي عمل 30 عاماً في منظمة الصحة العالمية (2)

عدد القراءات
2,275
عربي بوست
تم النشر: 2020/05/07 الساعة 10:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/05/07 الساعة 14:14 بتوقيت غرينتش
الطبيب السعودي: حسين عبدالرازق الجزائري

يُكمل صالح الشحري الجزء الثاني من مراجعته لكتاب ومضات من الذاكرة للدكتور حسين الجزائري، الذي قضى ثلاثين عاماً مديراً لمكتب منظمة الصحة العالمية في شرق المتوسط

تهتم المنظمة بمكافحة الأمراض الوبائية وإدارة التعاون العالمي للتصدي لها، يذكر د. حسين أنه بخصوص مرض السارس قامت المنظمة بالإعلان عن وجوده في الصين رغم أن السلطات الصينية حاولت التكتم عليه حرصاً على موسمها السياحي، وكذلك أعلنت المنظمة عن اكتشاف حالات في تورنتو بكندا كانت السلطات قد تكتمت عليها، وعنيت المنظمة بإجراءات منع انتقال المرض والتوعية بأخطاره.

كما تعني المنظمة بمكافحة الأمراض المتوطنة ومساعدة الدول على التخلص منها، ويمكن أن نعطي مثالاً بدعمها لسلطنة عُمان التي استفحلت فيها الملاريا يوماً وتم القضاء عليها، وكذلك مساعداتها لمصر في منع الإصابة بالبلهارسيا وتشجيع حملات التوعية، وخاصة تلك التي تستفيد من التثقيف الديني في إرشاد الناس إلى التصرفات الصحية السليمة.

كذلك تعطي المنظمة أولوية لرعاية الطفولة والأمومة، وقد تمكنت من تنفيذ حملة عالمية للتحصين ضد شلل الأطفال الذي وصل في عهد د. الجزائري إلى تحصين ٨٠% من أطفال المنطقة بحيث لم تبق إلا بؤر قليلة في باكستان وأفغانستان، وقد نشط د. حسين في تدعيم الحملة ضد شلل الأطفال في مصر، وكان هذا موضوعاً رئيساً عند التقائه بالرئيس حسني مبارك وزوجته السيدة سوزان. 

آنذاك كانت وزارة الصحة المصرية قد اعتمدت على اللقاح الذي يعطى عن طريق الحقن بناءً على رأي أطباء كثيرين، علماً بأن هذا اللقاح أقل كفاءة من اللقاح الذي يعطى عن طريق الفم، اللقاح الذي يعطى عن طريق الحقن لم يكن يتم تعاطيه إلا في أمريكا وإسرائيل، وقد عمل د. حسين على استبداله ونجح في دعم اعتماد اللقاح الآخر، وتم ذلك بعد أن عجزت الحكومة المصرية عن تمويل ذلك اللقاح من المنظمات الدولية.

يتحدث د. حسين هنا كيف يقاوم بعض الأطباء بشكل غير صحيح مجهودات المنظمة، فمثلاً ظل كثير من الأطباء المؤثرين وخاصة في مصر يعالجون حالات الجفاف الناشئ عن الإسهال بأن يمنعوا الأطفال المصابين من تعاطي الأغذية عن طريق الفم ويعتمدون على إعطاء المحاليل بالحقن رغم أن منظمة الصحة العالمية قد اعتمدت إعطاء محلول مقاومة الجفاف عن طريق الفم بدلاً منه، وذلك لثبات نجاعته.

تهتم المنظمة أيضاً بمساعدة الدول على تحسين الخدمات الصحية عن طريق تدريب الأطباء على التعامل مع الأمراض في المجتمع المحيط، خلافاً للنظرية القديمة التي تبتعث بعض الأطباء للدول المتقدمة للتدريب ثم يعودون أو يبقون في البلاد المتقدمة، ولا يكفي عدد هؤلاء المبتعثين إن عادوا  للتعامل مع كل الأمراض، ويكلفون دولهم كثيراً، ولذا فقد استطاعت المنظمة دعم سوريا في إنشاء دبلومات تؤهل أطباءها في الصحة العامة، فتمكنت بذلك من تغطية مساحة القطر بأطباء مدربين على التعامل مع الأمراض التي تتواجد في محيطهم، وهو هنا يمدح الدكتور محمد إياد الشطي وفريقه في وزارة الصحة السورية على إنجازاتهم في تغطية البلد بخدمات الرعاية الصحية المتكاملة. 

وقامت المنظمة بمساعدة اليمن في إنشاء عدد من الدبلومات في ثمانية من فروع الطب تتعلق بأمراض بيئتهم، ومنها مرض العيون الشائع الكتاراكت، وكان انعكاس ذلك على نوعية الخدمات الصحية في بلد شحيح الموارد مبهراً. كما استطاع د. حسين تحصيل دعم الرئيس بورقيبة لعمل معاهد للتمريض والقبالة في مناطق تونس الجنوبية التي كانت بأمسّ الحاجة إلى هذه الخدمات.

يشيد الدكتور حسين بتجربة تعليم الطب في إيران، حيث تتبع كليات الطب وزارة الصحة، وبالتالي فإنها تؤهل طلبتها للتعامل مع مجتمعهم مباشرة، وتجري أبحاثها على المشاكل الصحية التي تسود فيها. 

هذه التجربة الرائدة كادت تتعرض للتخريب وخاصة من قبل المعارضين السياسيين، ما أدى إلى أن يقوم د. حسين مع وفد من منظمته بزيارة إيران لدعم التجربة، وهناك دعا كثيراً من السياسيين  ليطلعهم على رأي المنظمة الداعم لهذه التجربة، لدرجة أن صحفاً معارضة قالت إن زيارته سياسية، وقد استطاع أن يحبط الجهد المناوئ لهذه التجربة. وحاول تعميمها فاستفادت منها أقطار كباكستان.

يؤمن د. حسين كما تؤمن منظومته بأن تعليم الطب يجب أن يكون بلغة البلد؛ لأن المتعلم باللغة الأجنبية لا يتمكن من الاستيعاب إلا بجهود مضاعفة، وينص دستور منظمة الصحة العالمية على الحرص على تدريس الطب بلغة مجتمعه، ولذا فقد تمكنت منظمة الصحة العالمية في عهد الدكتور حسين من تطوير المعجم الطبي العربي المتوافر ورقياً وإلكترونياً، بحيث أصبح يحتوي على 150 ألف مصطلح مقابل الطبعة التي سبقت والتي لم يزد ما فيها على 23 ألف مصطلح، كما أن المنظمة الأم قد دعمت برنامجاً علمياً بالعربية بمبلغ حوالي 400 ألف دولار تم من خلالها ترجمة الكثير من المراجع المهمة إلى العربية.

حديث د. حسين عن إنجازات منظمته في أفغانستان يشهد للمنظمة بالإبداع وحسن الأداء، ورغم أن الحكومة الشيوعية كانت تشتكي من أن المنظمة تقدم خدمات صحية لا تحظى بموافقة الحكومة إلا أن الدكتور حسين أقنع وزير صحة أفغانستان آنذاك بأن مساعدات المنظمة إنسانية وليست لها أهداف سياسية. ودلل بأن هذه المساعدات لو أعطيت للحكومة في كابل فلن تستفيد منها المناطق الريفية لأنها خارج سيطرة الحكومة. 

يذكر د. حسين أن منظمته حظيت بثقة كل أمراء الحرب الذين جاؤوا بعد سقوط الحكومة الشيوعية، فقد وافقوا على اقتراح إيقاف الحرب ثلاثة أيام من كل شهر  ليتم إيصال اللقاحات والأدوية، وقد كانت المناوشات تتوقف لأيام لإيصال المساعدات ولا تعود أحياناً إلا بعد مدد طويلة، وقد تفاعل قادة الفرق الأفغانية مع ما رأوه من سياسة المنظمة التي لم تقصر عملها على العاصمة بل جعلت لها 7 مكاتب فرعية تعمل كل منها في محيطها لرعاية أبناء المنطقة، وكانت توظف المؤهلين من أبناء المنطقة والمتطوعين في بعض الأحيان. ويقارن بين كيفية عمل منظمته وغيرها فيقول إن مكافحة مرض السلّ عند منظمته كانت تتم عن طريق تدريب أفراد من المجتمع على تشخيص المرض من خلال فحص لعاب المرضى تحت المجهر وعند التشخيص يبدأ صرف الدواء ومتابعة المرضى، وبذلك كان يمكن باستثمار مبلغ مليوني دولار السيطرة على المرض في مجموعة من مخيمات اللجوء الأفغاني تضم الملايين، بينما موّلت حكومة إيطاليا مشروعاً مشابهاً فدفعت أضعاف ذلك المبلغ لتخرج بنفس النتيجة؛ لأنها أتت بموظفيها وفنييها وأطبائها من إيطاليا، وتحملت ميزانية الدعم مرتباتهم العالية ومصروفات إجازاتهم وحمايتهم.

تعددت مشروعات المنظمة في أفغانستان وتضمنت تدريب الأطباء في الأمراض النفسية وإعادة افتتاح كلية الطب وتأهيل الذين انقطعوا عن الدراسة، وعمل مشروعات لتنقية المياه وإيصالها، وتبنت كثيراً من مشروعات التنمية الأساسية.

يقدم الدكتور حسين شهادة فريدة من نوعها عن طالبان فهو أحد القلائل الذين قابلوا الملا عمر، ولم يجده متعصباً وضد المرأة وتعليمها كما أُشيع، فقد قال له الملا عمر عند مناقشته تعليم النساء فنون التمريض إنه إذا استطعنا بناء مدرسة واحدة فستكون للذكور، وحين نستطيع بناء مدرستين فإن واحدة ستكون للذكور وأخرى ستكون للإناث. 

ذكر د. حسين عن الملا عمر أنه محاور جيد منطقي في طرح أفكاره مثله مثل قادة طالبان الآخرين، وقد افتتحت منظمة الصحة العالمية أيام طالبان مدرسة للتمريض للطالبات بغير مشقة في قندهار، ويوضح الدكتور حسين أن كثيراً مما يقال عن طالبان مبالغات من ذوي أهواء، وأحد أسبابها مثلاً أن منظمة الصحة العالمية كانت تشترط توظيف النساء في كل المناشط، وتؤكد على أن تغيير لبس المرأة سيحسن مستواها، بينما كانت النساء مرتديات لباسهن المحتشم الطبيعي الذي لم تفرضه طالبان عليهن. 

ويقول د. حسين إن بعض الأحكام الشرعية التي أخذت عليهم إنما كانت لأن معظم الطالبان كان تعليمهم الشرعي متوسطاً فكانوا يأخذون بظواهر النصوص. بالمقابل فإن شهادة د. حسين عن أحمد شاه مسعود لا تعطي عن مسعود صورة طيبة.

خاتمة:

مذكرات د. حسين شديدة الثراء خاصة أنها تعكس تجربة لم تتح لغيره في المنظمات الدولية، ولو أتيح للعالم الثالث ممثلون في المنظمات الدولية يحسنون فهم مصلحة بلادهم على حقيقتها -لا كما يراها الغربيون- لأمكن الاستفادة منها إلى أبعد مدى، وهذه التجربة الناجحة جديرة بالعناية وقادرة على إلهام العاملين في المنظمات الدولية من أبناء العالم الثالث الكثير من الأفكار والأعمال المفيدة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

صالح الشحري
طبيب فلسطيني
طبيب فلسطيني واستشاري أمراض نساء و توليد. مهتم بالشأن الثقفي وقضايا المجتمع وسبق أن كتبت عدة مقالات في موقع huffpost النسخة العربية.
تحميل المزيد