كيف وصل إلى المنصب؟ تجربة سعودي عمل 30 عاماً في منظمة الصحة العالمية (1)

عدد القراءات
559
عربي بوست
تم النشر: 2020/04/26 الساعة 10:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/04/26 الساعة 10:54 بتوقيت غرينتش
الدكتور حسين عبدالرازق الجزائري

يدور الكثير من التساؤلات اليوم حول منظمة الصحة العالمية، وخاصة بعد أن جعلها ترامب هدفاً يصوّب عليه في زمن جائحة كورونا، ولعل من أفضل ما يمكن أن نتعرف منه على منظمة الصحة العالمية كتاب ومضات من الذاكرة للدكتور حسين الجزائري، الذي قضى ثلاثين عاماً مديراً لمكتب منظمة الصحة العالمية في شرق المتوسط، بدأت عام 1982م، وهو مكتب يضم اثنتين وثلاثين دولة، وذكرياته المنشورة حافلة بالكثير. الدكتور الجزائري هو مؤسس أول كلية طب في السعودية، وقد عمل وزيراً للصحة فيها سبع سنوات، قبل التحاقه بمنظمة الصحة العالمية.

سلفه كان د. عبدالحسين طبا من إيران، وقد كسب مراراً في كل الانتخابات التي خاضها، لأن العرب الذين كانوا يتقدمون لمنافسته كانوا يعملون بغير تنسيق، حيث يتقدم للمنافسة أكثر من واحد كالعادة، ويخسرون جميعاً. هذه المرة قرر مجلس وزراء الصحة العرب الذين يشكلون الأكثرية أن يكون لكل الدول العربية مرشح واحد. واتفقوا على ترشيح د. حسين الجزائري، وذلك ما أمن  له النجاح.

  في تلك الأيام كانت مشكلة مقر المكتب الإقليمي ووجوده في الإسكندرية مصدر خلاف، فنظراً للانقطاع في علاقات الدول العربية بمصر بعد كامب ديفيد كان العرب يرفضون تلقي أي بريد من الإسكندرية أو الاجتماع فيها، وكانوا يضغطون لنقل المكتب إلى عاصمة أخرى، بينما تبذل أمريكا ضغوطاً كبيرة على المنظمة لمنع ذلك، وكاد نقل المكتب إلى الأردن ينجح إلا أن الواضح أن الضغوط الأمريكية كسبت في النهاية، وهو ما أسفر عن أن يدير د. حسين العمل بالانتقال بين مكتب للإدارة الإقليمية يقع ضمن المكتب الرئيسي للمنظمة، وبين مكتب المنظمة في الإسكندرية، حتى تم حل الإشكال بين مصر وباقي الدول العربية وعادت الأمور إلى طبيعتها.

كان رأي الدكتور حسين أنه يجب أن يحدث نوع من التوافق بين المنظمة والبيئة الإقليمية، فتم تعديل الإجازة لتصبح الجمعة والسبت بدلاً من السبت والأحد، كما تم إيقاف الاستثناء الذي يمنح موظفي مكتب الإسكندرية حق استيراد سجائر وخمور معفاة من الجمارك، وقد اعترض أحد الأعضاء واشتكى إلى منظمة العمل الدولية وخسر القضية.

أما العلاقة مع إسرائيل فقد كان الدكتور حسين مضطراً للتعامل معها، حيث إنها عضو في المكتب الإقليمي لشرق المتوسط الذي يرأسه، وكانت اجتماعات المكتب الإقليمي تتم من خلال مكتبين، يضم مكتب "أ" الدول العربية جميعاً، ومكتب "ب" إسرائيل وبعض الدول مثل إثيوبيا، وتفادياً لحضور المندوب الإسرائيلي كانت الاجتماعات لا تعقد في مصر، وكون الغالبية من الأعضاء يجتمعون في مكتب "أ" فإن المدير لا يحتاج لأن يحضر اجتماعات مكتب "ب"، وإنما يرسل إليهم قرارات مكتب "أ" لمناقشتها، وكان يتم التصديق عليها عادة؛ نظراً لأن قرارات مكتب "أ" توفر أغلبية.

وفي كل عام يقدم تقرير من إسرائيل وآخر من الهلال الأحمر الفلسطيني عن الأوضاع الصحية في المناطق المحتلة، وكان التقريران متناقضين، فتطلب المنظمة إيفاد بعثة لتقصّي الحقائق فتعيق إسرائيل دخولها. وحدث أن أرسلت إسرائيل رسالة تطلب فيها تعيين مستشار للشؤون الصحية للمناطق الفلسطينية، الرسالة أُرسلت بالبريد السطحي، أي الذي يستغرق حوالي ثلاثة أشهر، وعند وصولها لم تكن تحمل تفاصيل كافية، تم الرد بالفاكس وطلب تفاصيل، رد إسرائيل مرة أخرى جاء بالبريد السطحي الذي استغرق شهوراً، وأيضاً لم يكن يحمل تفاصيل كافية، أثار الوفد الإسرائيلي في اجتماعات المنظمة قضية أن مدير المكتب الإقليمي يهمل الاستجابة للطلبات الإسرائيلية، رد الدكتور حسين موجهاً كلامه للمجتمعين، متفادياً النظر للوفد الإسرائيلي، مبرزاً ملفاً يحتوي الرسائل المرسلة بالبريد السطحي وإجاباته بالفاكس، متسائلاً عما إذا كان أحد قد بقي إلى لليوم يستخدم البريد السطحي في المراسلات المهمة، وتعرّض المندوب الإسرائيلي لسخرية الوفود. بعدها طلب الوفد الإسرائيلي الانتقال إلى الإقليم الأوروبي، ووافق الدكتور حسين دونما تردد.

أحد أهم المشاكل التي كان على الدكتور حسين أن يتعامل معها هي مشكلة المقر، فالمقر في الإسكندرية ضاق كثيراً عن المتطلبات، وأصبحوا مضطرين لاستئجار مكاتب خارج المبنى، رصدت منظمة الصحة العالمية 9 ملايين دولار للمشروع، مشترطة ألا يتم طلب مبالغ إضافية، وأنه في حالة طلب مبالغ إضافية يجب أن يتم تمويلها من المنطقة باعتبارها منطقة غنية.

عرض محافظ الإسكندرية أرض الحديقة التي تقع أمام المبنى، لكن د. حسين لم يقبل، إذ إن ذلك يعني تشويه البيئة، ثم تم تداول مجموعة عروض مثل أخذ جزء من مسرح محمد عبدالوهاب المجاور، والذي لا يعود على وزارة الثقافة بنفقات تشغيله فرفضت الوزارة.

 وهكذا لم يبق حل في الإسكندرية، وعرض رفيق الحريري انتقال المكتب إلى بيروت، وكذلك عرض الأردن عرضاً مشابهاً، إلا أنه وبعد عدة زيارات لرئاسة الوزراء المصرية وتبرع من مصر بمليون جنيه، أي أقل من مليون دولار بقليل  آنذاك، تم إيجاد أرض في القاهرة، وهناك تفاصيل كثيرة تُظهر تجذّر البيروقراطية في حياتنا، وقد تم استكمال التمويل بمجموعة من المنح: مليون دولار من الأمير طلال بن عبدالعزيز، ومثلها من حكومة الكويت، ومثلها من الأمير سلطان بن عبدالعزيز، وكذلك من مؤسسة خيرية تابعة لوالد وزير الصحة الكويتي عبدالرحمن العوضي، تم بذلك تحديث المقر.

جُدد انتخاب الدكتور حسين ليستمر في منصبه لست دورات، وكان من حقه الترشح دائماً بصفته المدير، لكنه قبل طرح اسمه للترشح كان يطرح الموضوع مع مسؤولي كل دولة، مستفهماً إذا ما كان لتلك الدولة مرشح، والهدف ألا يرشح الدكتور حسين نفسه في حالة وجود مرشحين آخرين، وكانت معظم الإجابات أن الدولة المعنية تعتبر أن حسين هو مرشحها إذا نزل في الانتخابات، وقد حصل هذا أيضاً في الانتخابات الأخيرة، وكان ممن استشارهم آنذاك زميله وزير الصحة السعودي، الذي أكد أن السعودية لا ترغب في ترشيح أحد. وعليه فقد طرح د. حسين اسمه للانتخابات. 

المفاجأة أن السعودية أيضاً تقدمت بمرشح، وهنا تواصل د. حسين مع وزير الصحة، الذي قال إن المرشح السعودي إنما تم ترشيحه من قبل مجلس وزراء الصحة في الخليج، لم يشأ الدكتور حسين الانسحاب لصالح مرشح بلاده، لأن هذا يعني عند الدول التي اكتفت باعتبار الدكتور حسين مرشحها، أنه قد تواطأ مع مرشح بلاده ليمنع أن تُرشِّح الدول الأخرى منافساً له.

حذر وزير الصحة د. حسين بأن إصراره يعني تعريض عائلته للخطر، أجاب الدكتور حسين بأن دولتنا ليست دولة بوليسية، ثم اقترح د. حسين أن يقدم طلباً لتأجيل الانتخابات أربعة أشهر، بعدها لن يتقدم د. حسين للترشح، وهكذا تأخذ الدول الأخرى التي كانت تدعم د. حسين فرصتها في ترشيح مواطنين من بلادها، لكن وزير الصحة قال إنهم ليسوا بحاجة لذلك، لأن مرشحهم سيكسب بنسبة 17 صوتاً مقابل 10 أصوات، ولكن النتيجة جاءت لصالح د. حسين، أُسقط في يد وزير الصحة السعودي الذي أنحى باللائمة على بعض الدول التي تتلقى مساعدات من بلاده ولكنها لم تدعم مرشحها. بالمقابل، معظم هذه الدول أجابت بأن السعودية إنما تدعمهم لوجه الله لا لتجني المنافع.

يذكر د. حسين أن في منظمة الصحة العالمية بعض التلاعب الذي لم يكن يتوقعه، من أمثلة ذلك أنه في أحد اجتماعات المنظمة اشتكى رئيسها من صداع وقد تدهورت حالته تلك الليلة وتوفي، هنا حسب القانون يدير المنظمة الدكتور الجزائري، باعتباره الأقدم بين مديري المكاتب الإقليمية، لكن سكرتير المدير الذي توفي أخرج رسالة قال إن فيها وصية من الرئيس السابق، أنه في حال تعرّضه لما يمنعه من أن يؤدي عمله فإن مسؤولياته وصلاحياته تنتقل إلى السيد فلان، وهذا خرق لقانون المنظمة.

وتفادياً للخلافات بين الدول الأعضاء تنازل الدكتور الجزائري عن حقه في أن يقوم بأعمال الرئيس، لكن المسألة باتت مشينة للمنظمة، التي حرص رؤساؤها فيما بعد ألا يحدث مثل ذلك مما يخالف القانون مرة أخرى.

ذكريات د. الجزائري عن عمله في منظمة الصحة العالمية تعطي فكرة عن أهمية عمل هذه المنظمة وإنجازاتها، وقيم العدالة والمساواة التي تحرص عليها عند توزيع الخدمات الصحية على الجمهور المستهدف من خدماتها. ودورها على مستوى العالم كمنظمة توجه عمل وزارات الصحة في منطقتها، وتقودها للتكامل والتعاون.

في حلقة قادمة، سنكتب عن أنشطة منظمة الصحة العالمية التي أشرف د. حسين على تنفيذها ومتابعتها.

يتبع..

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

صالح الشحري
طبيب فلسطيني
طبيب فلسطيني واستشاري أمراض نساء و توليد. مهتم بالشأن الثقفي وقضايا المجتمع وسبق أن كتبت عدة مقالات في موقع huffpost النسخة العربية.
تحميل المزيد