في كل مساء من مساءات الحجر الصحي، أنغمس في الفراش، أتحسس جسدي الهزيل الذي لا يزال يحلم بالفرح والسفر والمغامرات، أنزل الستائر الغليظة، وفي ظلام دامس أكتب على حاسوبي اللمسي بأصابع قلقة، أتبادل مع أصدقائي في الشبكات الاجتماعية النكت والمعلومات والمقالات وصور الكاريكاتير والورود والقلوب، والقبلات، والكل يستغيث بالآخر بدون نداء إغاثة، فلا ضوء يدفئ القلب لولا ضوء الحاسوب، ولا بحر يغسل صوت الفجيعة.
في الواقع، عشت متنقلة بين المدن، كثيرة الحركة والنشاط لكن العزلة كانت حبلاً سرياً قوياً يشد جسدي ويقويه ويحميه، إثر كل صدمة أو فاجعة وبعد كل تعب أو شعور بالضياع. وقد كانت العزلة ملاذي ومسرحاً لصمتي وتفكيري وخيالي وتحرري من لغط العالم الخارجي وضوضائه المزعجة، وأصواته المفزعة.
صورة الطفلة في حجر علبة كرتونية، أصوات النحيب القريبة البعيدة وشهقة الأم وهي تحضن أطفالها الأربعة، سهرة الذكر وقراءة القرآن حول جثة أبي، نحيب جدتي وتشييع الجموع له. صور لم أرها ولا أدري كيف أمكن لي أن أراها الآن على امتداد الطريق ومع كل مشهد للبحر وللجبل.
بسرعة مجنونة كنت أقود سيارتي لكي أتمكن من الوصول إلى مدينة سكيكدة التي تبعد عن تيزي وزو بحوالي 300 كيلو قبل توقيت الحظر الذي يبدأ من الساعة الثالثة مساء لينتهي على الساعة السابعة صباحاً.
مدت يداها إلى العلبة الكارتونية تحت السرير، فابتسمت والدمعة تنحدر على خذها المتوهج.
قضت الطفلة الرضيعة طيلة أيام الحداد في الحجر الكارتوني، وكان ذلك بالنسبة للأم الأرملة المكان الأكثر أماناً، فقد كانت خائفة من أن يعبث بها إخوتها الأطفال في غفلة منها أو أن يجلس فوقها أحدهم عن طريق الخطأ فيقتلها إن هي وضعتها فوق السرير أو فوق أحد المطارح الموضوعة أرضاً على سجاد كبير في قاعة الضيوف.
لم يكن يسمع لها بكاء أو فزع ككل الرضع في سنها، كأنها كانت بكماء، لم يعلم المعزون ولا شيوخ الذكر أن للفقيد طفلة في شهرها الثالث.
قالت الجدة بعد أن غادروا: يا ابنتي تفقدي الطفلة فلربما أكلتها القطط؟
لم تتناه إلى مسمعها أصوات النحيب والعويل، كانت الملائكة تداعبها وتهدهدها بينما عيناها الصغيرتان تبحثان عن نقطة ضوء في جوف العتمة.
كانت الوالدة المنشغلة بالحزن والجلوس مع المعزين وأشغال المنزل في تلك الفترة السوداء جندياً يسهر على حدود سلامتي على بعد خطوات وأمتار، وهي وحدها من يعرف موقعي. وكان ذلك الحجر، حجر الحزن وحجر الأمان، حجري الصحي الأول.
مازالت أمي تقيم في البيت الذي تركها فيه والدي، ترفض تغييره أو مغادرته للعيش مع أحد أبنائها في المدينة. وحيدة هي الآن في حجرها.
وحيدة هي الآن في حجرها الصحي بالبلدة، أتراها نائمة أم أنها جالسة في كرسيها المتحرك أمام النافذة تنتظر وصولي..
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]