يعتبر كامو أن "العبث" يتغلغل في وعي الإنسان تغلغلاً مفاجئاً، في اللحظة التي يشعر بها الإنسان بالفراغ، بإرهاق من الوجود اليومي أو الحياة اليوميّة. فيتوقّف "الوعي" في هذه اللحظة عن استيعاب الغاية من هذه الحياة اليوميّة، وتنقطع سلسلة التصرّفات الاعتياديّة والروتينيّة.
هكذا، وفي إحدى ليالي العام 2016، توقّف وعيي عن استيعاب الغاية من هذه الحياة، وتناولت جرعة زائدة من مزيجٍ بين حبوب منع الحمل والحبوب المهدّئة للأعصاب بهدف الانتحار. الألم كان كبيراً في المعدة، لكنه أقوى في الروح. استيقظتُ لاحقاً لأجد نفسي في غرفة أحد المستشفيات، ويد صديقتي تمسّد شعري برفقٍ أمومي. لم تقلْ شيئاً، اكتفتْ بتقبيلي على جبيني وكلمة "بحبّك".
هذه المحاولة التي باءت بالفشل، بسبب عودة صديقتي المفاجئة إلى منزلها -بعدما كانت ودّعتني قبل حوالي الساعتين والنصف- بقيتْ سرّاً بيني وبينها. يومها، لم أفكّر بالعواقب. لم أفكّر بالارتباك الذي سأسبِّبه لها، ولا بوالدتي حين كانت ستتلقّى خبر وفاة ابنتها الوحيدة. وهذه فكرة تقلقني بالمناسبة. دائماً ما كنتُ -ولا أزال– أخالف رأي أصدقائي الذين يتمنّون الموت قبل أن يموت أحد أفراد عائلتهم. ما هذه الأنانيّة المرعبة؟ تخيّل أن تبكي والدتك على موتك!
اليوم، الذي تمنّيتُ أن يكون يوم وفاتي، كان روتينيّاً. من يوميّات الحزن العادي. تناولتُ الفطور مع صديقتي ونحن نتبادل الأحاديث الجادة حيناً والتافهة أحياناً أخرى، ودّعتها على أن تعود في المساء ونخرج سويّاً للاحتفال بعيد ميلاد صديقةٍ مشتركة. شاهدتُ التلفزيون، ثم استحممتُ وأنا أستمع إلى أم كلثوم تغنّي "إنتَ الحبّ"، قبل أن أرتدي ملابسي وأنشّف شعري. كانت ثومة تردّد عبارة "وعمري ما اشكي من حبَّك مهما غرامك لوّعني"، حين التقطتُ ورقة صغيرة وكتبتُ عليها:
"ماما، بابا، وراوي.
أنا هيك مرتاحة. بحبكُن".
وضعتُها إلى جانبي، وأخرجتُ مجموعة الحبوب من حقيبتي، وتناولتها حبّتين حبّتين وأنا أعدّها. اثنتان وسبعون حبّة. لن أنسى يوماً مذاق الدواء، ومرارته التي شعرتُ بها على طرف لساني طيلة فترة انتظاري للموت. لموتي.
حين طلبتْ منّي لاحقاً المعالجة النفسيّة أن أصف شعور انتظار الموت، أخبرتُها أني لم أشعر إلا بالارتياح التام لإنهاء الألم. أردتُ فقط أن أرتاح. ثم أخبرتها أني شعرتُ بالحريّة، أو ربما أردتُ أن أجعل موتي حريّة. شعور سوريالي طبعاً، ففكرة الموت كلّها هي أبعد ما يكون عن الحريّة.
ابتلعتُ الحبوب وانتظرتُ موتي.
بكيتُ كثيراً، كما لم أبكِ يوماً.
لم أعرف كم مضى من الوقت، قبل أن تعود صديقتي إلى المنزل، وتنقلني إلى المستشفى. كنتُ خارج الزمان والمكان في ذلك الوقت، ويصعب عليّ أن أحسب الوقت الذي مضى على انتظاري لموتي، وعلى بداية الألم الذي اعتصر معدتي، ثم وصول صديقتي إلى المنزل لتجدني متكوّرة على نفسي، أرقد على الأرض. حتى أني لا أذكر تاريخ هذا اليوم المشؤوم، وتمكّنتُ من تحديد العام بصعوبة.
إنه يومٌ مشؤوم فعلاً. أودّ لو أمحو كلّ تفاصيله من ذاكرتي. أكرهه. وأكره الكتابات التي تمجّد الانتحار، أو تلك التي تجعل منه فعلاً رومانسيّاً. دائماً ما شعرتُ بالخجل من إخبار أحد، حتى أقرب المقرّبين إليّ، عن تجربتي. ليس الانتحار بطولة، ولا هو جبنٌ. وآخر ما يصحّ معه نقاش الصبر والتروّي، أو التغزّل بشجاعة المنتحر، الذي يستفيض به البعض. الانتحار، وفي لحظة حصوله، ليس خياراً.
في الأيام السابقة لهذا اليوم، كنتُ أعيش اكتئاباً لم أعرفه له مثيلاً. وحين نتحدث عن الاكتئاب، نعني أن زنابق الوقت تتبدّد، على ما تغنّي فيروز من كلمات الأخوين الرحباني. لا نعود نميّز في أيّ يوم من أيام الأسبوع نحن، يلازمنا الأرق في الليل، وننام لساعاتٍ طويلة في النهار، ثم نستيقظ في منتصف اليوم من أجل البكاء.
حين نتحدث عن الاكتئاب، نعني أننا نتنفّس من دون أن نكون على قيد الحياة، نرقص لساعات في الغرفة، لا نذهب إلى العمل ولا نبرّر لأصحاب العمل، نتبادل القبلات من دون أن نشعر بها، نلجأ إلى الكحول والقراءة، نسمح لأجسادنا أن ترتاح على أسرّة الغرباء.
حين نتحدث عن الاكتئاب، يستوطننا الفراغ، لا نفارق وحدتنا، نشعر أننا عديمو الجدوى، حضورنا مثل غيابنا، يصبح العالم عدوّنا، نجد صعوبة في التواصل مع الآخرين، فالآخرون هم الجحيم، على ما يقول سارتر. والأهم: أننا نهرب من السؤال الذي يطرحه الأصدقاء "لماذا أنتِ حزينة"؟ فشرحُ الكآبة كئيبٌ أكثر من الكآبة نفسها.
كتبتْ نغم مرّةً أن المكتئب، لو علم بأسباب حزنه، لما أصبح مكتئباً. لم أجادلها حينها، ولو أني أردتُ إخبارها أن ذلك غير صحيح أو أن الأمر لا ينطبق –أقلّه- على جميع المكتئبين. كنتُ أدرك جيّداً سبب تعاستي، وجلَّ ما أردته هو التخلّص منها. وحين شعرتُ بعجزي، أردتُ التخلّص من الحياة قبل موعد موتي. "أهناك حياة قبل الموت؟" ليس مريد البرغوثي وحده من يطرح هذا السؤال.
كثُرت في لبنان مؤخراً حالات الانتحار، في ظلّ الأزمة الاقتصاديّة التي تسيطر على الأكثريّة الساحقة من الناس. هؤلاء الذين فقدوا أعمالهم خلال موجات الصرف الأخيرة، أو الذين أصبحوا يتقاضون نصف راتب، وانخفضت بالتالي القدرة الشرائيّة لمداخيلهم فيما ارتفعت الأسعار بشكلٍ جنونيّ. من دون التطرّق إلى هؤلاء الخائفين على تعويضاتهم ومدّخراتهم من المصارف، التي تحتجز أموالهم ولا تعطيهم إلا المصروف الذي تراه مناسباً لها.
ولأن الأزمات الاقتصاديّة تأتي بالكوارث على الناس، عموم الناس، هناك من لم يبقَ لديه سوى خيار الانتحار، لا سيما في ظلّ العدوان المعيشي والنفسي الذي تمارسه الطبقة السياسية المهيمنة ضدّ الشعب. ليس الانتحار عملاً فرديّاً، وتافه مَن يُخرجه مِن سياقه الاجتماعي. نحن أسرى "السيستم" الذي يرسم لنا معايير الحياة الجميلة: "السعادة، والنجاح، والمال، والحبّ"، كلّها معايير نسعى لتحقيقها من أجل تحقيق الذات. بمعنى آخر، نحن نقدّم أوراق اعتمادنا لهذا "السيستم"، الذي لا يرأف بالفاشلين أمثالنا، فنصبح ضحيّته.
ليس الانتحار موتاً. قد يكون طلباً للموت، استدعاءً له. وقد يكون هرباً من الموت، أو محاولة تجريد الموت من سلطته، كمصيرٍ حتميّ آتٍ لا محالة. يمكن أن نجد مئات التفسيرات للانتحار. بدوري، وحين "لجأتُ" إليه، اعتبرته طوق نجاةٍ من شأنه أن ينقذني من اليأس.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.