عندما يولد الأبناء بلا رحمة.. جولة وقصة من داخل دار مسنين

عربي بوست
تم النشر: 2019/06/12 الساعة 15:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/06/12 الساعة 15:22 بتوقيت غرينتش

أبناء تجرَّدت قلوبهم من أسمى معاني الإنسانية والرحمة، وأصبحت قلوبهم كالحجارة، نسوا من اهتمَّ بهم منذ الصغر، وعلَّموهم معنى الحياه منذ نعومة أظفارهم، وتحمّلوا مشاق الحياة وآلامها وأوجاعها من أجل أن يصل أبناؤهم إلى القمة.

"وبالوالدين إحساناً"، "ولا تَقُل لهما أُفٍّ ولا تنهرهما"، آيات قرآنية لم يُلق لها بعضُ الأبناء بالاً، بل منهم من يُمارسون ضد آبائهم أنواعاً من العنف لا تُنسى، دون رحمة أو شفقة عليهم، الأمر الذي يزيد من شعور الآباء بالإذلال.

"الحياة صعبة جداً، ومؤلمة على كل من ضاقت بهم الأرض ورزقهم الله بأبناء لا يعرفون الرحمة"، بهذه الكلمات المؤلمة بدأت الحاجة فوزية عساف حديثَها، عن معاناتها ووجعها مع ابنها الوحيد.

وتتابع الحاجة فوزية: "تزوَّجت وأنا عمري 17 عاماً، ومنعني زوجي من إكمال تعليمي، وبعد مرور 13 عاماً توفّي زوجي تاركاً خلفه طفلي الذي ظننته من الذرية الصالحة".

تضع يدها المتجعدة على خدّها الحزين، وتُكمل حديثَها بكل حزن: "كان طفلي أمانة في عنقي حتى أوصله لمستوى يليق به، عملت في كثير من الأماكن، كنت خادمة في بعض المنازل، وبعدها في مخبز للمعجّنات، وكرّست نفسي لخدمته وتعليمه ليعيش بهناء وسعادة، حتى أصبح مهندساً كبيراً".

بحشرجة تملأ صوتها تكمل حديثها: "زوَّجت ابني بعدَ رغبته في الارتباط بفتاة أحبَّها في الجامعة أثناء دراسته، وكم كنت سعيدة جداً بهذا الزواج الذي حوَّلني فيما بعد لأكبر تعيسة، بعد أن طلبت زوجته أن يُلقي بي في بيت المسنين، وذلك لأنها لا تطيق العيش معي في منزل واحد، وبالفعل نفَّذ ابني أمر الملكة".

"بدأ بتنفيذ مهمته بالشتم والإساءة والكلام الفاحش، وضربي بكل ما يلقى أمامه من أدوات، آخرها كانت آلة حادة "المنشار"، ليأتي جميع مَن حولنا لإنقاذي من بين يديه، وإرسالي للمستشفى للعلاج، وبعده إلى بيت المسنين". هكذا ختمت الحاجة فوزية قصتها.

أما المسن عارف (60 عاماً) فقد وجَّه لي سؤاله قبل أن يتحدث معي: "لو جبتي قفص من ذهب وضعتي فيه عصفور رح يكون مرتاح؟!!"، كلمات قليلة، ولكن ذات مغزى كبير هزَّت جسدي، ولوّعت قلبي.

يتحدَّث عارف عن بداية قدومه لبيت المسنين: "جلبني أبنائي منذ سنة ونصف، وهم خمسة أبناء، أحدهم يبلغ من العمر 10 سنوات، والآخر 17 عاماً، يقضون حياتهم مع والدتهم في الأردن، وأحد أبنائي يعيش في فرنسا، إذ كنت أسكن في الأردن  مع عائلتي، وافتتحت لزوجتي مركز تجميل في عمان، تلبية لرغبتها في إنشاء مشروع".

أستيقظ الثالثة فجراً لأداء قيام الليل وانتظار صلاة الفجر، وأتابع نهاري بالجلوس في الحديقة تحت شجرة الليمون وسماع زقزقة العصافير، وأحياناً نذهب رحلات إلى وادي الباذان، والمطاعم والمنتزهات، وأذهب إلى النوم الساعة التاسعة مساء، بعد أن كنت أقضي وقتاً طويلاً على الإنترنت، لكن بعد انتهاء مدة شريحة الإنترنت التي اشتريتها أصبحت أشعر بالملل، لعدم وجود ما يُسليني، طلبت من المديرة أن تسمح لي باستخدام إنترنت الجمعية، لكنها رفضت أن يستخدم أحد منا الإنترنت، وتمنعنا عن استخدامه قطعاً.

ويتابع: "لا أحد من أقربائي يزورني أو يسأل عني، وكأني خبزة يابسة منسية على جدار المدرسة، إنني الآن أصارع مرضي وحدي، حيث أعاني من انكماش في المخ نتيجة عدم التوازن، ولا أستطيع المشي إلا باستخدام ووكر، ورغم هذا الواقع المؤلم القاسي سأتحمل وأصبر حتى فرج الله".

 وقالت مديرة بيت المسنين: "نقدّم ثلاث خدمات للمسنين، منها خدمات أكل وشرب ونوم، وأخرى تمريضية من الساعة 8  صباحاً وحتى 11 مساء، وأخرى ترفيهية من أجل خلطهم بالمجتمع".

وتابعت: "توجد إجراءات لأي أحد يريد أن يدخل بيت المسنين، منها أن يكون فوق 60 عاماً، وأن يكون قادراً على الذهاب إلى التواليت وقضاء حاجته بنفسه".

وأضافت: "تكون حالة المسنين في أول أسبوع  صعبة ومؤلمة جداً، ونحن نطلب من أهالي المسنين زيارتهم باستمرار؛ كي يكون هناك تواصل بينهم، ولا يشعر المسنون بفراغ".

وأنهت حديثها: "ليس من السهل أن يستقبل المسنون أحداً أو يتكلموا مع أحد، حيث إن المسنين لا يعطون الأمان بسهوةه لكل مَن يزورهم، أو يريد التقرب منهم".

ويؤكد الكثير من الباحثين أن أسباب العنف ضد الوالدين ترجع إلى عوامل أسرية، نتيجة التفكك والتدليل الزائد وعدم متابعة الأولاد، والحالة الاقتصادية، أيضاً أصدقاء السوء، والبطالة، وعدم العمل تدفع الشباب إلى تفريغ طاقتهم في العنف. يجب العودة إلى أخلاق الإسلام، واختيار الصديق الصالح، وأن يكون لدى الأسرة ترابط وتماسك.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تسنيم صعابنة
طالبة صحافة وإعلام، مهتمة بالعلوم والفنون والآداب
كاتبة فلسطينية

من داخل مشفى العزل أكتب: زوجي المصاب بكورونا يرعى أطفالي، وأنا أحلم بالموت كل ليلة!

عربي بوست
تم النشر: 2022/01/19 الساعة 10:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/01/19 الساعة 10:35 بتوقيت غرينتش
تصيب الإنفلونزا وكورونا الجهاز التنفسي، إلا أن فيروس كورونا ينتشر بسهولةٍ أكبر من الإنفلونزا/ Istock

كنت قبل أسبوع أعيش حياة عادية مع أسرتي، وكنا نظن ظناً أن فيروس كورونا سيئ السمعة لن يطرق بابنا؛ إلا أن الجمعة الماضية وقع ما لم يكن في الحسبان، وأعلن فيروس كورونا عن نفسه ضيفاً ثقيلاً بيننا بادئاً باستيطان رئتي زوجي، ثم بعد يومين فوجئنا بأنه يسكن في أبداننا جميعاً أنا وزوجي وأبنائنا!

كان يعبث بأجسادنا كما يحلو له، فتارة يجعل الصداع يدق رؤوسنا، وتارة أخرى يؤلم أجسدانا، وأخرى يرهقنا من السعال وسيلان الأنف، هذا غير حرارة الجسم المرتفعة، ورغم ما مر علينا من أمراض إنفلونزا أو نزلات برد عادية، إلا أن للكورونا نكهة مختلفة، مربكة وغير مريحة البتَّة!

ولأن "كورونا" غير عادي، فالتوقعات معه غير عادية أيضاً، فقد كنت أظن أن خلال تلك الأيام القلائل لم يتمكن من إضرار رئتي؛ لكنني صُدمت بإصابتي بالتهاب رئوي صغير، إلا أنني استجابة لاقتراح الطبيبة دخلت مشفى للعزل -حيث أكتب كلماتي الآن- لكي أتمكن من أخذ دواءٍ خاصٍ يعالج هذا الالتهاب قبل تفاقمه.

غير أن ما جعلني أستجيب لاقتراح الطبيبة هو ذكرى خلفها أخٌ سابقٌ لفيروس كورونا وهو إنفلونزا الخنازير، فقد أصبت به في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 إلا أن جهلي بالمرض وصبري على آلامي ورقودي في البيت دون طلب مساعدة طبية، قد أدى لالتهاب رئوي حاد، دخلت على إثره العناية المركزة وهناك كنت على شفا الموت إلا أن عناية الله أنقذتني، لكن أثَّر ذلك بشكل سلبي على رئتي فصارتا أكثر حساسية من ذي قبل، ولا أدري هل سيطبع "كورونا" بصمته الخاصة على رئتيَّ كأخيه أم لا!

ولا أخفيكم كم كانت ساعات الانتظار في المشفى الذي أجريت به الأشعة طويلة جداً، هذا غير انتظاري لذهاب زوجي لإحضار حقيبة ملابس لي، وقد اقترح إحضار أولادنا معه في السيارة لأتمكن من توديعهم؛ فقد كان أقسى شيءٍ علي في مرضي بإنفلونزا الخنازير هو منعهم من زيارتي بأمرٍ طبي لمدة ستة عشر يوماً كاملة، وبالفعل فقد حضروا معه وجلست معهم في السيارة أضحك معهم وأوصيهم بأنفسهم وبوالدهم خيراً، حتى أتت سيارة نقل للمرضى أقلتني إلى مشفى العزل الذي أمكث به حالياً.

وكنت وكأن لساني حالي يقول لصغاري هذه الأبيات البارعات (بتصرف) للشاعر العماني أبو مسلم ناصر بن سالم البهلاني:

صبراً بُنيّ على الزمان وصرفه.. إن الزمان محارب الأحرار

أين الفرار عن المقدر للفتى.. إن الأمور رهائن المقدار

وكل الأمور إلى المهيمن إنه.. تدبيره يقضي على الأفكار

كم كربة نزلت وضاق نطاقها.. فتفرجت باللطف والأيسار

ما خاب من وكل الأمور لربه.. فهو المفرج كربة الأعسار

ورغم كل ما حاولت التظاهر به من جلد فقد كنت أبكي بكاء مريراً في سيارة النقل هذه، حتى إذا كنت في الصباح التالي لبست قناع التجلد والكتمان والصبر وكم كان هذا قاسياً للغاية وفوق احتمالي ووهني.

إن أشد ما شعرت به و لمسته في هذه المحنة أن العيش تحتَ مظلة كورونا لا يشبه العيش تحت أي ظرف آخر، فالمجهولُ هو سيد الموقف بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فأنا منذ إصابة زوجي لم أعد أعرف ما الذي تخبئه لي اللحظات التالية، ما الذي سيحدث في الغد، هل سنكون بخير، أم هل سيلحقنا مكروه، وفكرةُ أن يجهل المرء مصيره أو مصير أحبائه هي فكرة مرعبة، كنت أحاول ألا أفكر، فكلما أمعنت في التفكير شعرت بأني أدخل نفقَ الاحتمالاتِ اللانهائية السيئة، فيخفق قلبي بشدة وأشعر ببرودة أطرافي من شدة التوتر، عدا الأحلام الغريبة، والكوارث التي تلاحقني في بعضها والتي أفيق منها على مشهد الموت  أنني في لحظة صعود روحي لبارئها!

ولم يقتصر القلق عليَّ أنا فقط أو على أهلي -نحن عالم الكبار- فقد أصاب صغاري أيضاً، فقد كان يبكي طفلاي في بداية الأمر رعباً أكثر منه ألماً، أما ابني البكر فقد كان غاضباً ويرفض الحديث في الأمر، ولكن كعادة الأطفال ولا يستثنى من ذلك من هم على أعتاب المراهقة، فإنهم يتناسون الهموم في زحمةِ عوالمهم الصغيرة البريئة، فحيناً يلهون معاً وحيناً آخر يتابعون أحد رسومهم المتحركة المفضلة وأحياناً أخرى يتشاجرون معاًً، وهكذا يمضي يومهم بين ضحكة ودمعة ثم نوم.

ورغم وضعي، فإني والحمد لله أفضل حالاً من آخرين قد هدَّهم الكوفيد وتمكن من رئتيهم، ولا أنسى أصحاب الأمراض الخطيرة الذين يتألمون ويتحملون، وقد يعانون من الرقود في المشفى لأشهر أو لسنوات، كيف يتأقلمون مع حياتهم، كيف يرون المستقبل، ولا أنفك داعية لهم بالشفاء العاجل، هذا غير كبار السن الذين صادفتهم هنا في المشفى، كيف يتعلقون بالأمل، كيف يستبشرون بالغد؟

فاللهم اشفنا واشفِ كلَّ مريضٍ تألم، وارحم ضعفنا وارفع درجاتنا وأكرمنا برحمتك وجزيل لطفك، وارفع عنا البلاء والوباء فأنت القادر على كل شيء يا رب العالمين.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

صفا علاء الدين
مدونة مصرية
تحميل المزيد