صديق: إذا كان العلم دائم الخطأ والتصحيح، لماذا نجعله معيار الحكم على الصواب والخطأ؟
صديقه: حتى ولو كان العلم قاصراً فهو يكتشف أخطاءه ويصححها بنفسه، بينما المتدينون يتمسكون بآراء شيوخهم بلا منطق.
صديق: العلوم الإسلامية تماماً مثل العلوم الطبيعية مبنية على منهجية علمية تحليلية ونقدية.
صديقه: كيف تقارن العلوم الطبيعية المبنية على الحقائق العلمية الموضوعية مع العلوم الدينية التي تكتسب شرعيتها من توافق العلماء مع بعضهم "الإجماع" على فهمهم للدين.
صديق: لي صديق "سنسميه أحمد" كان يؤمن مثلك بشرعية الحقائق العلمية وعلوها على ما دونها وكاد الأمر أن يكلفه مستقبله العلمي واتزانه الأخلاقي.
أحمد جراح عيون يجري عمليات لمرضى المادة البيضاء، وهو يعلم أن العملية ستفشل في ٢ من كل مائة مريض. ولا يعلم أي اثنين من مرضاه سيكونان الضحيتين التاليتين، ولا كيف يمكن أن ينقذهما. قبل أن يمارس أحمد الطب كان مثله مثل مرضاه، يؤمن أن الأدوية والجراحات أدوات علمية للشفاء، وأن أي فشل معناه أن هناك خطأ ما حدث من الفريق الطبي، أما العلم نفسه فهو منزه عن الفشل، ولكن سنوات الدراسة أتت بحقائق مرعبة، فمثلاً في بلد متقدم مثل أمريكا حيث الأخطاء البشرية مسيطر عليها إلى حد كبير والموارد المتوفرة لا تحلم به مستشفياتنا، وبالرغم من هذا فثلث العمليات الجراحية تسبب مضاعفات وواحدة من كل عشر مضاعفات تنتهي بالوفاة، الأكثر رعباً أن ثلاثة أرباع هذه الحالات لا يمكن تجنبها أصلاً؛ فهي قصور علمي وليس تطبيقياً. "برجاء مراجعة الدراسة التي نشرتها الهيئة القومية للصحة في أمريكا سنة ٢٠٠٢ للتفاصيل"، كذلك الأرقام تكاد تتطابق في إنجلترا.
رؤية هذه الإحصاءات على ورق الملخصات في كلية الطب لم تعد أحمد لمواجهتها في الواقع خلال فترة امتيازه في استقبال أحد المستشفيات الحكومية الكبيرة في شرق القاهرة، كان يرى يومياً أمامه حالات فقدت بصرها أو أطرافها أو حياتها نتيجة الإجراءات الطبية. أول حالة اكتئاب له وتفكير جدي في ترك مهنة الطب كانت عند محاولته الفاشلة إنقاذ حياة مريضة، لم يستغرق الأمر سوى دقائق منذ أن رأى أولادها يهرولون بها إلى باب المستشفى وهي تتلوى من الاختناق، إلى أن توفيت بين يديه وهو يحاول أن يسعفها في مدخل المستشفى، ونظر لأولادها ولم يعرف ما سبب الوفاة الذي سيقوله لهم! فهو نفسه لا يعلم هل فعلاً هي حالتها الحرجة، أم أنه الإجراء الطبي الذي اتخذه؟ أم أنها قرارته الإدارية التي اتخذها، هل فعلاً لم يكن هناك وقت لاستدعاء أحد النواب من الأدوار العليا؟ هل فعلاً صيدلية المستشفى البائسة ليس فيها مضادات حساسية ولا تحتوي إلا على خافض حرارة ومسكن للألم الذي يعطونه لكل من يأتي للاستقبال بلا تفرقة؟ هو يعلم أن تجهيز العناية المركزة أكثر بؤساً من الصيدلية ولكنه لم يحاول، هو صدقـاً لم يكن يعلم ما سبب الوفاة، هو فقط حاول وهي فقط ماتت.
سافر أحمد لدراسة وممارسة الطب في الخارج ليتسلح بأحدث الأدوات العلمية التي تحقق الانضباط العلمي القاطع الذي يرتضيه لنفسه، ولكنه فشل، لم يجد أينما درس أو عمل ذلك العلم القطعي الذي لا يحتمل التأويل والاحتمالات، فكل ما ينجح فيه العلم هو أن يقلل ضحايا الأخطاء العلمية ليس أن يمنعها، وكل ما تستطيع الممارسة المنضبطة تقديمه هو تقليل الخطأ البشري، وكل ما يستطيع الجراح الرجوع به من عمله في الغرب هو مسدس، ثلثا طلقاته يحتويان على الشفاء، وثلثها يحتوي على المرض وبعضه قاتل، وكل ما يمكنه أن يفعله هو أن يجلس يومياً في مستشفاه يدخل على المحكوم عليهم بالمرض فيضحك في وجوههم ويطمئنهم أن معه أداة الشفاء ثم يطلق عليهم أداته العلمية المغلفة بالألفاظ الإنجليزية الفخمة، فيُشفَى من يُشفَى، ويَمرُض من يَمرض، ويموت من يموت، وإن أراد التخلص هو من المسؤولية الأخلاقية "والقانونية"، فيوضح لمرضاه العواقب ويترك لهم الاختيار، فيعطيهم المسدس في أيديهم ليقرروا ثم يقوم بتنفيذ الحكم الذي اختاروه، اكتشف أحمد أن مهنة الجراح ليست بهذا النبل الرومانسي الذي كان يعتقد، وأن الأدوات العلمية لا توفر ذلك اليقين العلمي القاطع الذي كانت تحدثه به مدرسة العلوم، بل هي مهنة نبيلة بشكل عملي مبني على الواقع غير الحاسم لتفاصيل الحياة، نبيل في حدود علم قاصر، وإمكانيات محدودة، ومعضلات أخلاقية ليس فيها اختيار بلا غصة ندم.
وكما أن الطب لا يوفر اليقين السطحي الذي يعلمونه لنا في الكتب المدرسية، فكذلك العلوم المتقدمة مثل علوم الفضاء؛ فناسا ٢٪ من رحلاتها تفشل، بل إن آخر ٤ رحلات فاشلة توفي فيها ١٨ رائد فضاء، لفهم قيمة هذا الرقم فإن ثروة أمريكا لا تتعدى ٤٦ رائد فضاء تختارهم بشكل فائق العناية، وتتكلف ٥٠ مليون دولار وست سنوات لتدريب أحدهم، وبالرغم من الأهمية الاستراتيجية والأدبية والإنسانية لرحلات الفضاء وللرواد لم يقدح أحدهم في ناسا أنها جهة علمية فاشلة أو حاولوا استبدالها بأخرى، بل على العكس، فناسا أخطأت لأنها جهة علمية، لهذا لا تستطيع أن تقدم يقيناً قطعياً للجزم بالنجاح ١٠٠٪ أو حتى توقع الفشل قبل حدوثه مثلما يبالغ السطحيون في الثقة بالعلم، والخطأ جزء من الثمن المتوقع، لذا فلم يتوان الكونغرس في ٢٠١٥ عن إعطائها ميزانية ١٨ مليار دولار أي ١٪ من ميزانية الولايات المتحدة.
والسؤال هنا ما حدود اليقين الذي قد يوفره لنا العلم المعاصر؟ باختصار العلم يستطيع أن يأتي لنا بترجيح قوي، فقط بما يكفي لأن نؤمن بصحته ولا يكفي أن نقطع بصحته أو نعممه في كل المواقف، وذلك لأن الواقع معقد، بينما النظريات العلمية لا تعدو اختزالات سطحية جامدة "برجاء مراجعة مقالي عن الحقيقة السائلة للتفاصيل"
ولأن المنهج العلمي في جوهره مبني على الشك واستبعاد الوصول ليقين قطعي "برجاء مراجعة مقالي عن حدود الأدوات العلمية التجريبية". بالإضافة إلى قصور اللغة نفسها عن التعاطي مع الحقيقة "برجاء مراجعة مقال قصور اللغة في القياس والتعبير عن الحقيقة العلمية"، وأن العلم صحته نسبية قاصرة على سياق محدد ولا تستطيع الإحاطة بالسياق كما سنوضح لاحقاً.
المجتمع العلمي ما بين الشرعية والقداسة
العلم لا يقوم على الحقائق العلمية القاطعة كما نضلل أطفالنا في الكتب المدرسية، هذا التصور فوق إنساني للعلم الذي لا يخطئ أقرب للإيمان بوثن خيالي اسمه "الحقائق العلمية" لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه.
على النقيض فالعلماء يتحصلون على العلم عن طريق التدرج في خطوات متصاعدة من الترجيح وليس القطع، فيبدأ شكاً، ثم محاولات لإيجاد تبرير عقلي، ثم محاولة الترجيح بحشد أدلة تتوافق مع أحد التبريرات أكثر من غيرها، وعند تواتر الترجيح نصل إلى الإيمان العلمي، وهو لا يعني أن ما وصل إليه العالم حقيقة، ولكن يعني أنه يؤمن أن هذا التبرير قد يصمد أمام الحالات المماثلة، كل هذه الدرجات المعرفية "شك، فيقين، فترجيح فإيمان" هي درجات إيمانية محضة لا تتضمن اليقين القاطع في أية مرحلة.
بالنسبة لغير المتخصصين في الأمر فإن المعرفة يطغى عليها الجانب الإيماني ويقل الدليل العقلي، فهو إيمان إنساني محدود يكتسب وجاهته من إيماننا في العلماء وليس من حكمنا على الأدلة العلمية. فعموم من آمنوا بنظرية التطور أو بالاحتباس الحراري أو بأثر التدخين على الإصابة بالسرطان اعتنقوها لا نتيجة استعراض آراء العلماء المختلفة وترجيح أدلة أحدهم على مخالفيه بل نتيجة إيمانهم البسيط في العلماء أنفسهم.
وبم أنه لا يوجد رأي إلا وهناك ما يخالفه
ولا يوجد أحد العلماء يستطيع أن يدعي أن معه العلم القاطع الذي ليس بعده شك.
لذا فأعلى يقين علمي يأتي من شيوع رأي ما وسط العلماء كافٍ لأن نصدق هذا الرأي حتى ولو لم يكن هو الرأي الوحيد.
وإجماع العلماء هو أعلى يقين علمي ليس لأنه فقه كهنوتي يضع فيه العلماء قواعد اللعبة لأنفسهم، بل على العكس فوجاهة الإجماع هي أن المنهجية العلمية "سواء الإسلامية أو الطبيعية" هي منهجية بشرية ليست مقدسة؛ لذا فهي تخضع للنقاش والنقد والتطوير، ولهذا فبالنسبة للعلماء أنفسهم لكي يؤسسوا شرعية علمية لرأيهم فإن أفضل ما قد يسعون لتحقيقه هو انعقاد إجماع المجتمع العلمي على تفضيل إيمانهم "رأيهم" العلمي على إيمان الآخرين، ولكي يحققوا شرعية تطبيقية يسعى العلماء "كأي مسوق" يروج فوائد نظريته العملية وسط العوام والتطبيقيين ويهمش "أو يتجاهل" نسبة الفشل.
فمثلاً في بدايات القرن العشرين كانت هناك منافسة شديدة حول أية تكنولوجيا يجب أن تسود في الكهرباء، من ناحية كانت هناك تكنولوجيا التيار الكهربائي المباشر DC والتي يروج لها العالم الكبير توماس أديسون، ومن ناحية أخرى كانت تتصاعد منافسة التيار الكهربائي المتردد AC الذي يروجه منافسه ويستنجهاوس، وكانت المنافسة محتدمة حول من سيستحوذ على الشرعية العلمية، ولكي يحشد أديسون القبول لوجهة نظره هاجم التيار المتردد وضخم من مخاطره، حتى وصل بأديسون الأمر أن قتل أنثى فيل باستخدام تيار كهربائي قوته ٦٦٠٠ فولت و صورها بالفيديو وهي تتهاوى ويتصاعد الدخان من كل أجزاء جسمها؛ ليستخدم الأثر المرعب في التنفير من التيار الكهربائي المتردد، ومن توفيق الله للإنسانية أن أديسون لم ينجح في محاولاته، فالتيار المتردد اتضح أنه البديل الأمثل في معظم الاستخدامات التي كان يريد أن يستحوذ عليها.
فعلى الرغم من أهمية الإجماع العلمي إلا أنه ليس كافياً وحده ولا يحصن رأياً ما من أن يكون خاطئاً، بل قد يسهل أن يقتنع بعض كبار العلماء بأحد الآراء العلمية ويحشد إلى الإجماع عليه فينحاز المجتمع العلمي إلى هذا الرأي مبكراً ويصل المجتمع العلمي إلى إجماع خاطئ، أحد الأمثلة البارزة هي الجدل الكبير القائم حول الإجماع على التغير المناخي وتلاعب بعض القوى السياسية عليه لتفكيكه، لمزيد من المعلومات برجاء مراجعة هذا البحث المهم في دور الإجماع في تشكيل الوعي العلمي وكيفية التأثير لتحفيز انعقاد الإجماع العلمي في اتجاه ما.
ولهذا فالإجماع رغم قلة حدوثه هو أقل قطعاً من درجة "حقائق علمية" التي تسبغها الكتب المدرسية بكرم بالغ على إجمالي المنهج التعليمي، الواقع أن الإنسان لا يستطيع إدراك الحقيقة إلا يقيناً إيمانياً "علم اليقين" وليس مشاهدة موضوعية "عين اليقين"، فالعلماء يسعون إلى الحقيقة وهم كمعصوبي العيون، لا يعلمون أين تقبع غايتهم، ولا أي طريق يسلكونه ليصلوا لها، فكلما وجدوا طريقـاً يصعد بهم سلكوه وحينما يتوقف عن الصعود يتحسسون بعصيهم أي طريق آخر يواصل بهم الصعود، وحين تتقطع بهم الطرق الصاعدة يتوقفون عجزاً لا قطعاً بالوصول إلى القمة، ولكن حين يحتشد عدد كاف من معصوبي العيون في نقطة ما يشيع بينهم أنها لابد أن تكون نهاية الطريق فينعقد الإجماع، ويستمر الاستقرار حتى يستطيع أحد المخالفين إقناعهم بأن الطريق الذي تحت عصاه يصعد من جديد، أو حينما يفاجئهم آخر أن هناك جبلاً آخر تماماً لم يصعدوه "مثل جبل معرفة الكوانتم والذي يقع على طريق آخر غير النسبية". وهكذا يستمر التعلم باستمرار الشك وينقطع بانقطاعه.
أما العوام الذين يتسطحون السفح فالصورة من مكانهم مختلفة تماماً. فهم أبعد من أن يروا أي تفاصيل أو أن يدركوا حركة الصاعدين وتغير مواقفهم المستمرة. فبُعد المسافة وعلو العلماء يبدو من بعيد كما لو كان العلماء لديهم طوال الوقت القول الفصل وأنهم عالون ولا يُعلى عليهم. لذا فيتوهم البسطاء ممن في السفح أن العلماء مستقرون عند تمام العلم ومَبلَغ العالَمْ. فيقدسون وثن "الحقائق العلمية" ويصدقون أن للعلم سقفاً، وأن العلماء يصعدون يومياً إلى حافة الكون لكي يدبروا الكون بصولجان العلم الذي لا يخطئ، فيشفوا المرضى ويسقوا الزرع ويحفروا الأنهار. وعندما يفشل أحد الكهنة في مهامه فالتقصير منه أنه قد أساء الأخذ، وليس لأن العلم الإنساني قاصر عن العطاء.
"الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم
ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم". البقرة- 255
* الحوار والصديق متخيلان ولكن كل تفاصيل الحوار والأحداث حقيقية.
_______________________
المصادر:
2- الدراسة التي نشرتها الهيئة القومية للصحة في أمريكا سنة ٢٠٠٢ عن المضاعفات في مرضى العمليات الجراحية
3- ارتفاع حالات الوفاة الناتجة عن العمليات الجراحية في إنجلترا
6- القيمة الاقتصادية لحياة رائد الفضاء
8- هل حُفِظَ الذكر؟ تداعيات تفاوت فهم القرآن
9- لا أدلة تجريبية علي وجود الله.. في نقد العلم والإيمان
10- ما هي الأدلة من القرآن والأحاديث النبوية على أن إجماع العلماء يستخدم كدليل في التشريع الإسلامي؟
11- المنافسة بين أديسون وويستينجهاوس
12- تصوير لحادثة قتل الفيل بالكهرباء
13- الدور الجوهري للإجماع العلمي المتصور
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.