يتداخل الجوع مع مشاعرنا تداخلاً أعمق مما يبدو لكثير منا، تُترجم الكثير من مشاعرنا على شكل تقلص مزعج يصيب بطوننا، ويصرخ كطفل سخيف لحوح: أريد طعاماً. وبينما تؤثر هذه المشاعر تأثيراً سلبياً مختلفاً على صحتنا وقلوبنا وضغط دمنا باستمرار، إلا أن هذه التأثيرات تظل خفية، لا ترصدها إلا سماعة الطبيب أو جهاز رسم القلب، أما ذلك الجوع الذي لا يهدأ، ذلك الصراخ المؤرق الذي يجعلك تستيقظ ليلاً بلا وعي؛ لتبحث عن أي طعام في بيتك، أو يجعلك تفقد قدرتك على الاكتفاء، بينما تطلب وجبتك من أحد المطاعم السريعة، هذا الجوع المؤلم، لا يحتاج إلى مدقق ليرصد آثاره الواقعية.
إن آثاره تتجسد سريعاً وبشكل درامي حين تضيق ملابسنا، ويتكور الدهن فوق بطوننا، وهذا يحفزنا لغضب جديد وحزن مختلف وشفقة مقيتة على الذات، فنترجمها في شكل وجبة جديدة مخدّرة، ونظل في تلك الدائرة التي لا ترحم.
أتساءل أيهما يسبب الآخر: الانفعال يسبب الجوع أم الجوع هو مسبب الانفعال؟ شعرت بإجابة تتردد في رأسي على لسان رجل غاضب يجيبني بنفاد صبر: "لا أعلم، كل ما أذكره أني محبط حالياً، وغاضب منذ فترة.. وجائع دائماً".
معضلة جحا
قرأنا قديماً قصة جحا وولده وحماره.. حين ركب جحا الحمار ومشي ولده بجواره فلم يعجب الناس قسوة جحا، ثم حين ركب ولده ومشي جحا فلم يعجب الناس جحود الولد، ثم حين ركب كلاهما فلم يعجب الناس قلة شفقتهما على الحمار، حتى قرر جحا في النهاية حمل الحمار بنفسه، لقد ظللنا نسمع هذه القصة من منظور جحا ونسينا شيئاً بسيطاً، أننا نحن الناس، نحن من لا يعجبنا أي شيء، حتى بطلنا جحا سيفعل نفس الشيء، وسيظل متذمراً حين يكون على الطرف الآخر.
"يا لقسوة هذا الرجل، يركب هو ويترك ابنه يمشي".
يقول محللو العقل إن الغاضبين -ولأسباب متأصلة- يميلون إلى وضع عدسات مشوّهة على أعينهم ليروا بها العالم؛ لذا فهم دوماً ناقدون غاضبون، إنهم يرون الواقع كما يحلو لأذهانهم أن تراه، وليس كما هو في الحقيقة، لا تعجبنا قسوة جحا ولا جحود ابنه ولا قلة شفقتهما، كذلك لا تعجبنا نظرة مديرنا لنا، ولا راتبنا الذي نظن أننا نستحق أفضل منه، ولا الحب الذي نتلقاه فنراه غير كافٍ، ولا الرعاية والاهتمام الذي ننتظره ممن حولنا، نغرق في انفعالات لا تنتهي، نغضب كثيراً ويسلمنا الغضب للحزن والإحباط، فنبحث عن مُسكّن ما.
"ولدٌ جحود، يركب هو ويترك أباه يمشي".
ما الصورة المثلى؟ وأين توجد السعادة الصافية؟ وما حدود الاهتمام الكافي الذي نستحقه؟ وأين يوجد الحب الصافي الذي نتمناه؟ وأخيراً متى تأتي اللحظة المناسبة لتتحقق فيها أحلامنا؟
هذه الأسئلة لها إجابة بسيطة ممتنعة، وهي غالباً الإجابة التي لا يفقهها الساخطون الغاضبون أبداً.. الإجابة هي: هنا والآن.
كل شيء لديك هو كافٍ، حين تراه كافياً، وتقرر أن تستمتع به، كل لحظة هي اللحظة المناسبة، وكل سعادة مهما صغرت هي سعادة صافية، أما بكائيات الحرمان فلها نتيجة واحدة، الغضب والإحباط والجوع، ليس جوع المعدة فقط، بل جوع ثقيل تتشربه روحك فلا يكفيها شيء.. أي شيء.
سادة البيئة النظيفة
في مدينة ريو دي جانيرو بالبرازيل، يعمل "فالتر دو سانتوس" في وظيفة "كاتادور"، أي جامع قمامة، حيث يقوم هو وزملاؤه بتجميع المواد القابلة للتدوير في جراماشو جاردن، وهو واحد من أكبر مقالب القمامة في العالم، ورغم ظروف العمل الخانقة للغاية، فإن "فالتر" وزملاءه يشعرون بفخر كبير بل وبمتعة في هذا العمل، وحين يتحدثون عن عملهم، تشعر بأنهم يتحدثون عن موظفي علاقات عامة وليس عمال نظافة، يقول "فالتر": "أنا أجمع القمامة هنا منذ 26 عاماً وأنا فخور بعملي"، قد يبدو هذا غريباً وغير مصدق، لكن حين تتأمل ستجد أن "فالتر" وزملاءه يرون أنفسهم "سادة البيئة النظيفة"، وأنهم ينقذون الكوكب في عالم مليء بمن يلوثون البيئة، هذه هي عدساتهم التي يرون بها عالمهم، وهذه هي القيمة التي يشعرون بها.
"إن كنت تظن أن الأجواء سيئة، فانتظر فقط خمس دقائق".
كتب حكيم لملك يعظه فقال: "هذا الوقت سوف يمضي"، وهذا من عيون الحكمة، فهو لم يقع في شَرَك بائعي السعادة الوهمية، وقال له: هذا الوقت السيئ سيمضي، بل قال: "الوقت"، وهذه نصيحة علماء السلوك، لا تبالغ في التعلق بالأوقات والأشياء التي تسعدك؛ لأنها حتماً ستمضي، كذلك لا تبالغ في انفعالاتك مع الأوقات السيئة؛ لأنها كذلك ستمضي، لا بأس أن تغضب، أو تحزن، لكن هناك فرق كبير بين أن تترك تلك الانفعالات تجرفك بعيداً وتتحكم في شكل حياتك، وبين أن تراها كضيوف مزعجين عابرين، عما قليل سيرحلون، وكما قيل: "تذكر أن اليوم السيئ مجرد 24 ساعة"، والبعض ينصح من تضايقهم الغيوم والأجواء المكفهرة أن ينتظروا فقط خمس دقائق؛ لأن الشمس قد تكون في طريقها، أما المنفلوطي فيزن الكفة يوم يقول:
"أسعد الناس في هذه الحياة مَن إذا وافته النعمة تنكّر لها، ونظر إليها نظرة المستريب بها، وترقب في كل ساعة زوالها وفناءها، فإن بقيت في يده فذاك، وإلا فقد أعدّ لفراقها عدته من قبل".
قانون الطفو فوق المشاعر
نكران المشاعر لا يفيد، بل قبولها أول الطريق للتعامل السوي معها، تعامل مع مشاعرك كمركب يطفو فوق موجه، لا يعاندها فتكسره ولا يستسلم لها فتغرقه، بل يتركها ترفعه أو تخفضه دون أن تكون نهايته مع هذه الموجة، وسواء كانت موجة رقيقة لطيفة مداعبة أو الأخرى، فهو لا يتعلق بهذا كثيراً، هو يعرف أن أياً منهما سيذهب ويلحقها ما هو مغاير لها؛ لذا تعلّم الطفو ولا تعِش في غضب دائم غير مبرر بسبب بعض الموجات القاسية.
استمتع باللحظة، وكفَّ عن القلق عما هو آتٍ، أو انتظار ساعة الخلاص فيه؛ لأنه ليس من الحكمة أن توقن أن القادم دوماً أفضل، وليس من الصواب كذلك أن توقن بأن الأسوأ لم يأتِ بعد، الحياة تمضي، شروق وغروب، مد وجزر، لم تُخلق أبداً على شاكلة واحدة، الأكيد أن الوقوع رهينة لما هو قادم هو عين الغباء، وأن السعادة الحقة تكمن في الاستمتاع بالوقت الذي تحياه الآن.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.