هكذا كان صوت فيروز العذب يرافقني في كل حركة وسكنة.. في الصباح وفي المساء.
اعترضت بشدة على مقولة "فيروز للصباح". صوتها لكل وقت. أعظم مكافآتي كانت مشاهدة "ميس الريم" أو "لولو" في المساء وقبل ذهابي إلى النوم.
غادرت مع صوتها حدود المكان الذي كنت محبوسة فيه، وتنشقت العطور، ولامست الجبال والأودية. في كل وقت عصيب وقفت بجانبي بصوتها وبقامتها الممشوقة وبعنفوانها وبحبها للبنان وبكل شيء جميل في الحياة.
لا يوجد شخص جعلني أتأمل الطبيعة مثلها، ولا يوجد شخص جعلني أحب القهوة مثلها.
أتذكر في طفولتي، ركبت في الحافلة مع صديقتي المقربة خلف السائق وكان من مصر الحبيبة، وكان قد أدار الراديو على محطة تصدح بصوت السيدة أم كلثوم. لم أكن أعرف صوتها، فسألت العم بكل سذاجة: من هذا الذي يغنّي يا عمّو؟
فالتفت إليّ بكامل جسمه مستغرباً ومستنكراً: هذا!! هذا!! يا بنتي دي الست! الله يسامحك! فيه حد ما يعرفش الست؟
تلعثمت وخجلت من نفسي وقلت: أنا آسفة جداً. أبي يعرفها ويستمع إليها. حاولت التركيز جاهدة بعد ذلك في الصوت واللحن، ولكن دون جدوى، وبعدها قررت أنني صغيرة جداً كي أفهم "الست" وأن الناضجين هم من يستمعون إليها.
وبسبب لوح الصفّ والجدول الدوري والتوزيع الإلكتروني انتقلت إلى الاستماع إلى "وردة".
فقد جلست مع معلمة الكيمياء في المدرسة بعد انتهاء الدوام المدرسي للتحضير لنشاط سنوي كنا نقوم به في كل عام.
وبينما أنا أساعدها في تعليق بعض اللافتات سألتني عن الأغاني التي أحبها، وفي ذلك الوقت كنت قد أضفت مارسيل خليفة وماجدة الرومي وجوليا إلى قائمتي إضافة إلى موسيقى البوب الأجنبية الدّارجة وقتذاك، ولكن فيروز ظلت بلا منازع سيدة قلبي، فسردت قائمتي وأكّدت عليها أن فيروز هي عشقي الأول وهي الكفّ الذي يُبسط لي كي تخرج منه الحدائق والأزهار، وهي ملاذي وقت الفرح ووقت الحزن.
وكان سؤالها الغريب بالنسبة لي: ألا تحبين وردة؟ فكان الجواب سريعاً: أراها على التلفاز ولكني أغيّر المحطة.
ردّت: طيّب.. أعطيها فرصة.
ولم أعطِها الفرصة إلى أن انتهى العام الدراسي، وفوجئت بمعلمتي تهديني بسبب تفوقي في مادة الكيمياء (ووكمان) أحمر اللون مع كاسيت لأغنية "في يوم وليلة". ومين كان يصدّق اللي جرى في يوم وليلة، انجذبت إليها انجذاب عنصر خامل قرر أن يكفّ عن سكونه وتصنّعه النُّبل. أضفت وردة إلى قائمتي وأدركت ساعتها مدى تنوّع الأذواق والأمزجة، وأحببت وردة وتعلقت معها بالجزائر وبمصر كما تعلقت مع فيروز بلبنان، وظللت وفية لذكرى معلمتي فعشقت "بتونّس فيك" بعد سنوات من مفارقتي لها، وما زلت أحتفظ بالكاسيت المهترئ حتى الآن، فقط لأتذكر أن الحياة مهما مضت بحلوها ومرها لا بد أن يمر في قطارها السريع مَن يتوقف عند كل محطة ليترك لي حقيبة ملأى بالحب والأمل.
فيروز أهدتني حقيبة من الحب الخالص أما حقيبة وردة فكانت ذكرى معلمة أصبحت فيما بعد صديقة وفيّة.
وإلى الآن ما زلتُ أبحث عن صوت فيروز صباحاً في محطات الراديو وأتجاهل السي دي وهاتفي المحمول؛ لأنني أعتقد أن الأصل في سماع صوتها أن يكون على كل محطات العالم العربي صباحاً؛ كي لا نفقد الأمل وكي نحمل حقائبنا ونمضي إلى المحطة التالية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.