استدعته أم كلثوم لتتعلم منه “غنّة” فعجزت حنجرتها الأسطورية أن تتقنها.. عن الجبار “محمد عمران” وسر المشاريع التي لا تكتمل!

عدد القراءات
1,612
عربي بوست
تم النشر: 2018/05/28 الساعة 10:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/28 الساعة 15:34 بتوقيت غرينتش

كان أداؤه إعجازياً، يصعب وصفه أو تصديقه أو مجاراته، كان شيئاً سماوياً لا يُصدق، في لحظة ما؛ تظن أن هذا الرجل يؤدي هذا الأداء أثناء وجوده على أرض غير هذه الأرض، مرة قال لي أحد المنشدين واصفاً قراءته غير المسبوقة لسورة الأنبياء: "هذا بث غير مباشر من مصدر غير أرضي"، لكن؛ ووسط هذا التحكم الأدائي المذهل، كان هناك شيء فائق الفرادة يستوقفني دومًا، إنها "القفلة" التي كان ينهي بها جملته الموسيقية، لم يكن من المقبول عنده أن يكرر "القفلة" بشكل نمطي، هو يعرف جيداً أن آهات المستمعين لا تخرج مع "القرار" أو "الجواب"، إن أذن من يسمعه جالسة مترقبة تنتظر "القفلة". وعلى قدر ارتباط "القفلة" بالجواب الصاعد تنطلق آهات المستمعين وأنينهم، لذا كان يتحدى نفسه دوماً بتغيير "القفلة"، كلما كرر الجملة أو اللحن، يستفز من يسمعه، فبينما يتهيأ المستمعون لقفلة شبيهة بسابقتها، يبهرك هو بقفلة جديدة، إن كان "المعري" قد ألزم نفسه بقافية معقدة من ثلاثة أحرف، فإن "محمد عمران" قد ألزم نفسه بقفلات لا يجاريه فيها أحد.

"يا راجل يا جبّار"، محمد عبد الوهاب متأثراً بأداء عمران.

لو طلبت مني نصيحة من واقع تجربة متكررة مع الإخفاق والطموح والمشاريع والأفكار التي لا تهدأ في عقلي، لقلت لك: "كمّل"، لا تتوقف بعد أن بدأت؛ لأن التوقف يفسد كل شيء، الكثير من الأفكار العظيمة والمشاريع الجيدة والطموحات الواعدة، توقفت وأجهضت؛ لأنها لم تجد من يؤمن بها حقاً، من يتحملها ويصبر عليها، ومن "ينهيها"، بينما تبدو البدايات براقة وملهمة، تجذبنا كضوء مبهر يجذب فراشة، نجدنا فعلياً نتصرف كفراشات عجلى تحترق مع أول لهب، إن الأفكار العظيمة تحتاج صبراً وطول نفس، لكننا نؤثر الاستسلام سريعاً، نترك أفكارنا وطموحاتنا في منتصف الطريق، فلا ينفعنا جهد البدايات، ولا وقت النمو، نتركها مشوّهة، كجملة موسيقية مبتورة لم تجد من يهبها "القفلة" المناسبة، لا أقبح من مشاريع مبتورة بلا هويّة، أحياناً نتوقف قبل سنتيمترات من وصولنا للنهاية، وربما أمتار، أو أميال، لكنها تصبح عادة مقيتة، تتجذر في عقولنا، حتى تنسحب على حياتنا جميعاً، فندمن البدايات بلا نهايات؛ لنترك تلك البدايات حسيرة بلا تابع يكملها، كم هذا مهين، كم هذا خسيس!

لماذا لا تستمر الأشياء الجيدة

سألت نفسي كثيراً: لماذا تتوقف الأشياء الجيدة، الأشياء الجيدة حقاً، تلك الأشياء التي تستحق الوجود والبقاء والانتشار؟ لماذا نجهضها ونتركها وحيدة سليبة؟ لماذا لا نستمر؟ هل نفسُنا قصير، أم طموحنا محدود، أم مواردنا قليلة، أم إيماننا بأنفسنا ناقص؟ كل هذه أسباب واقعية بلا شك، لكني عدت لأسأل نفسي: لكننا كثيراً ما يمكننا التغلب على كل هذا، كثيراً ما توجد حلول، وأفكار، وموارد بديلة، ومحفزات، وأساليب وطرق، لكننا نستسلم غالباً، لا نمتلك القوة الكافية لنحارب من أجل الحصول على "قفلتنا" التي نريدها، فلماذا نفعل ذلك؟ بعد بحث ومعاناة طويلة، يبدو لي الآن أن هناك من علمنا هذا! هناك من لا يفتأ يقول لنا "الحلو ما يكملش"، كأن الأشياء الجيدة لا يمكن أن تكتمل، لماذا لا تكتمل؟ قد نحصل على إجابة إذا استطعنا يوماً الحصول على إجابات لأسئلة قديمة؛ لماذا تكسّرت ألعابنا التي نحبها دوماً، لماذا لا تظل أمي ضاحكة دوماً؟ لماذا تبكي أحياناً، وأحياناً أخرى تنهار، لماذا تركني صديق طفولتي وسافر لبلد أخرى؟ ولماذا تركت مدرستي التي أحبها وانتقلت إلى مدرسة أخرى؟ لماذا سافر والدي فجأة وتركنا؟ ولماذا "بنت الجيران" التي أهيم بها وأتجمد في مكاني كلما رأيتها تبدو وكأنها لا تشعر بوجودي أصلاً، وأخيراً لماذا تنتصر الثورات المضادة على الثورات النزيهة؟

منذ طفولتنا ومع نمونا تظل عقولنا تتشبع بكل هذه التفاصيل لتتعلم منها شيئاً واحداً: الأشياء الجيدة لا تكتمل، إنها تموت أو تمرض أو ترحل أو تنكسر أو تمضي دون أن تشعر بنا، لكن هذا مؤلمٌ جداً، لقد أوجعنا هذا بشدة ونحن صغار، وخلّف لنا آلاماً مريرة وجروحاً غائرة بينما نكبر، ولأن العقل مبرمج على تخفيف الألم فإنه يُنشأ ما يسميه علماء النفس: المخطط! هذا المخطط أخرق وأعمى للأسف، يتعلم من هذه الذكريات السيئة عقيدة ثابتة ثم يبرمج عليها تفكيرنا وحياتنا كلها بالتبعية، ومخططات مثل "الفشل والحرمان وعدم الاستحقاق" عندما تعمل في عقولنا متآزرة تنتج عقيدة واحدة لا تتزحزح: "الأشياء الجيدة لا تستمر، الأشياء الجيدة ليست لنا"، تخبرنا عقولنا بلهجة الخائف على قلوبنا الضعيفة؛ "عش بهذا المبدأ وستتجنب الألم وجروح القلب والبكاء، تذّكر: لم يكن بكاؤك على لعبتك الجميلة المكسورة يوماً ذكرى جيدة".

المنفذون العميان والنبوءات ذاتية التحقيق

لكننا لا نرى هذه المخططات وهي تعمل، إنها هناك، في قرار اللاوعي، تتحكم في سلوكنا وردود أفعالنا التلقائية، ونظرتنا لأنفسنا ولواقعنا والتحديات التي نواجهها، إننا ننفذها بعمى تام، وانقيادية محضة، تتحكم فينا فوق تخيلنا، لا نستطيع أن نراها؛ لأنها صادرة من العقل، والعقل لا يستطيع "غالباً" أن يرى نفسه بينما هو يعمل، إن هذه المخططات الدفينة هي التي تجعلنا نروي قصتنا وفق ما نعتقده في أنفسنا وليس وفق الحقيقة، هي التي تضع على أعيننا عدسات مشوهة؛ لتجعل رؤيتنا -لواقعنا وما نراه وما نستحقه وما لا نستحقه- تسير وفق معتقدها هي وليس وفق الواقع كما هو، نحن لا نرى الواقع على حقيقته، ولكن كما تصوره لنا عقولنا ومخططاتها "المشوهة" في أحيان كثيرة، وحين تسيطر على عقلنا نتيجة محتمة تقول: "الأشياء الجيدة لا تستمر"، فأنت ستنفذ هذا، بل -من حقك أن تندهش- ستسعى لإفشال مشاريعك وعدم استمرارها، إن المخطط لا بد أن يكون صحيحاً؛ لأن صحته معناها تفادي الألم الذي من أجله كوّن العقل هذه العقيدة، وأنت ستنفذه بمنتهى الانقياد، لأنك أصلاً لا تراه.

إن الأفكار والمشاريع الجيدة لا تكتمل؛ لأننا وبينما نخطط لنجاحها، يخطط عقلنا الباطن -بتصوره المشوه- لإخفاقها، إننا نحول هذه العقيدة المزروعة في قرارة عقلنا إلى واقع، نحول مخاوفنا التي نعتقدها إلى حقائق بإصرارنا على الإيمان بها، نتنبأ النبوءة وننفذها! يظن الفاشل دوماً أنه سيفشل؛ لأنه يؤمن أنه لا يستحق النجاح، ومهما أتته من فرص جيدة، وواتته من ظروف مساعدة على النجاح، يتعامل معها وفق عقيدته المحبطة التي تتحكم فيه؛ لذا يتصرف بحمق ويضيع الفرص، ويمنع حماسه الإيجابي أن يدفعه للعمل والجدية، إنه يتنبأ النبوءة ويحققها؛ لأنه يخاف انكسار اللعبة!

ستستطيع تغييره حين تستطيع رؤيته

يصف علماء النفس حلاً عجيباً لتلك المخططات التي تتحكم في عقولنا، إنه الانتباه، التيقظ والوعي، ومحاولة رؤية هذه الأفكار والمعتقدات بينما هي تتسرب من اللاوعي إلى ردود أفعالنا وتصرفاتنا، إنها محاولة "إمساك العقل" متلبساً بالأفكار المحبطة، في كل مرة تقرر فيها أن مشروعك بلا جدوى، أو أن مجهودك مآله الفشل، فكر ما الذي يدفعك إلى هذا التفكير، ما الذي أورثك هذه العقيدة، لماذا تستسلم لأفكارك السلبية، حافظ على هدوئك، وركز انتباهك على تنفسك، وتيّقظ لعقلك، إن مجرد انتباهك لتسرب هذا السيل المدمر من الأفكار لكفيل بجعلك "تراها" وحين تراها ستستطيع أن تتحداها وتغيرها؛ لأنك تعرف – الآن – أنها ليست حقائق مطلقة كما كنت تعتقد، بل أفكار مشوهة، نشأت من ترسبات غير ذات علاقة بواقعك الحالي، وحين نتكلم عن المشاريع التي لا تنتهي؛ لأننا نخاف من النهايات الجيدة، ربما يجدر بك أن تبدأ في تحدي انسحاباتك، والبدء في الحصول على "قفلات" سيئة!

نزعة الكمال المدمرة

في تجربة واقعية قام باحثون بتقسيم مجموعة من الأفراد إلى فريقين، كلاهما لا يعرف شيئاً عن فن نحت الصلصال، طلبوا من الفريق الأول صنع أكبر قدر من الأواني الفخارية، وقالوا لهم إن التقييم سيكون بغزارة الإنتاج، بينما طلبوا من الفريق الثاني صنع أفضل قدر فخاري يستطيعون صنعه، وقالوا لهم إن التقييم سيكون بجودة القدر الوحيد الذي سينتجونه! وبعد فترة زمنية متساوية وجدوا أن الفريق الأول صنع آنية فخارية أفضل كثيراً من الإناء الوحيد الذي صنعته المجموعة الثانية والتي لم يكن لها همّ إلا الجودة! لقد استفادت المجموعة الأولى بتجاربها الفاشلة "المنتهية" واستمرارها في التعلم من أخطائها، وملاحظة كل عيب في الآنية التي "أنتجتها" بالفعل، بينما ظلت المجموعة الثانية في جدال وحوار مطول حول كيفية إخراج "أفضل" إناء فخاري، وبعد شهر من الجدال، أخرجوا شيئاً مشوهاً؛ لأنهم خلال فترة تدريبهم لم ينهوا أي شيء، لذا لم يتعلموا أي شيء! القفلات السيئة هي بوابتك للتعلم؛ لذا لا تتوقع أن تنجح في مشروع ما، وأنت لم تنهِ أي مشروع في حياتك، حتى لو كانت نهايته معيبة، وهذه خطورة الانسحاب!

شفت الغنّة يا شيخ عمران؟

شفتها بقلبي يا ست!

حوار بين عمران وأم كلثوم!

لم يكن "عمران" عندي مجرد قارئ أو منشد، كان ضماناً شخصياً لي أن هناك "قفلات" جيدة في هذا العالم، وأن الأشياء الجيدة تستحق أن تكتمل وتنتهي بشكل "لائق"، كنت أعشق ارتجالاته بشكل خاص، حين يقفل المقام كيفما اتفق، وينهي الجملة حيثما يحلو له، لكنه كان لا بد وأن ينهيها، لا يمكن للجملة إلا أن تنتهي، حتى لو كانت نهاية غير جيدة، حين استدعته أم كلثوم لتتعلم منه "غنّة" عجزت حنجرتها الأسطورية أن تتقنها، كانت تعرف سر تمكنه، وكيف سيساعدها على إتقان هذه "الغنة"، إن أستاذية "عمران" لم تأت من فراغ، إنها جرأة رجل "كفيف" يرى النهايات استحقاقاً لا يمكن التنازل عنه؛ لذا لا يفتأ يجرب كل "قفلة" ممكنة، الجيد منها والسيئ، لكنه أبداً لا يترك مقامه الموسيقي بلا "قفلة".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
رشدي عثمان
كاتب ومدرب شخصي
تحميل المزيد