عن أبي الذي لم أشَأْ رحيله

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/22 الساعة 09:34 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/09/09 الساعة 12:38 بتوقيت غرينتش
"Father comforting daughter who is sad. Low depth of field, sharp focus is on child's left eye.Part of a series that includes father and daughter and mother."

يقولون إن الزمن يغمر ذكري الراحلين في بحر النسيان، وإن الذكريات تخفُّ وطأتها بمرور الأيام، وإن الموت سُنة الحياة، والحياة بطبيعة الحال تلاهٍ. وجميعنا إلى مآل واحد وهو الموت.

وحقيقة الأمر أن الذكريات لا تغيب؛ فهي متناثرة في أنحاء متفرقة من الأماكن، وأكثر مكان توجد فيه هو القلب الذي تحمله بداخلك وتحملها معه أينما ذهبت. الذكريات هي ذلك الزائر الذي لا يستأذن في الحضور، فيظهر فجأة ومن دون سابق إنذار!

مرت 4 سنوات على رحيل أبي رحمه الله، وعلى الرغم من حضور هذا اليوم المشؤوم بذهني كأنه بالأمس، ولكن وقع غيابه كأنما مر عليه دهر وليس 4 سنوات!

4 سنوات من اختبار لمعنى الرحيل ومعنى الألم والفقد، ربما هذا العام أستطيع أن أكتب عن الحياة والموت معاً، عن الفرح والحزن حينما يتصارعان في قلبي. أكتب عما تعلَّمته من أبي في رحيله مثلما تعلمت منه في حياته.

لم أشَأْ رحيل أبي، هذا حقيقي، على الرغم من مرضه الشديد في الفترة الأخيرة، ذلك الشعور الذي استوقفني لأفكر لماذا لم أرغب في موت أبي؟ أغلب الظن؛ لأنه كان بمثابة الأمان، والسند، والطمأنينة، والحماية، والراحة…

نعم، وجوده كان يُشعرني بالراحة على الرغم من مرضه! وفي الوقت نفسه، كان في رحيله راحة له وانتهاء لكل آلامه. وفي تلك النقطة، كان صراعي بين راحتي وراحته. وأدركت أن الحُب يحوي بداخله بعض الأنانية؛ أنانية الإبقاء علي من نُحب بجانبنا!

وأقسى اختبار للحب هو أن نُطلق من نحبهم أحراراً بلا قيود، ونُطلقهم حينما يرحلون بسلام من داخلنا. وهو الاختبار الذي يصعُب كتابة كيفية حدوثه؛ فهو اختبار شخصي جداً.

 اختبار الموت من قُرب: بين الحين والآخر، يأتيني نبأ رحيل شخص عن عالمنا وأتأثر لذلك الخبر بشدة، لكن الموضوع مختلف تماماً حينما رأيت الوجه القبيح للموت من قُرب. خبرة رؤية شخص قريب تنسحب منه الحياة، وينتقل من الحركة للسكون، من الكلام للصمت. خبرة الموت من قُرب مختلفة عن مجرد السمع عنه!

 الوداع: هناك وداع تتوقع له لقاء آخر في هذه الحياة، لكن وداع شخص بالموت لا يوجد فيه وعد باللقاء على هذه الأرض. لكنه وعد بلقاء في مكان آخر، وتوقيت اللقاء مرهون بالوقت الذي سوف تستغرقه في المرور من الأرض للعالم الآخر، حيث اللقاء المُؤجل!

 الألم والقلم: لعل ما فعله بي الألم أنه حرّك قلمي، وسبقه عقلي وقلبي معاً. ربما فتح بصيرتي على بُعد أخر للحياة، على معانٍ أعمق للأشياء، عن أهمية كل دقيقة في الحياة. الألم جعلني أُدرك أن الأشياء تُستخدم من أجل الأشخاص وليس العكس!

 الحياة والموت: أيهما يسبق الآخر؟! هل الحياة سابقة للموت أم أن الموت سابق للحياة؟! لا أعلم! لكن ما أعلمه يقيناً، أن كثيرين موتى علي قيد الحياة، وآخرين تُخلد ذكراهم في الحياة وهم موتى!

 خدعوك فقالوا إن للتعافي من حزن الفقد وقتاً مُحدداً: إنها الكذبة الكُبرى، لا يوجد وقت محدد يُفترض عليك التعافي فيه من حزنك. لماذا نريد أن نجعل الأمر عادياً وطبيعياً ومرتبطاً بوقت محدد وعلى الجميع الالتزام به على الرغم من اختلافاتهم الفردية؟!

"أغلب الظن"؛ لأننا ببساطة نخشى الحُزن كما نخشى الموت أيضاً، ونريد أن نعبر بهما بأقصى سرعة ونعبر بأنفسنا بأقل الأضرار. والواقع أن الموت خبرة عميقة كخبرة الحياة، يصعب العبور منهما بسرعة أو حتى تجنبهما!

 أوقات الذكرى: لا توجد أوقات أو مناسبات محددة نتذكر فيها أحباءنا الذين رحلوا عن هذا العالم. بالطبع، سنتذكرهم في مناسبات خاصة كأعياد ميلادهم، ذكرى رحيلهم، في الأعياد والمناسبات حينما نفتقد وجودهم. ولكن قد نتذكرهم في أوقات مختلفة أخرى لا تحمل أي مناسبة محددة. الذكريات لا تستأذن قبل حضورها.

قد نتذكرهم عند دخولنا مكاناً ما، أو عندما نستنشق عطراً معيناً. الذكريات لها مخزن عميق بداخلنا، جزء كبير منه قد يكون ما زال قيد الاكتشاف.

يرى البعض أن الحياة هي المُعلم الأعظم، وأنا أرى أن الموت أيضاً مُعلم أعظم، فنحن لا نتعلم عن الشئ إلا من نقيضه. وعليه؛ لن نعلم عن الحياة من دون اختبار غيابها وانسحابها.

نعم، لم أشَأْ رحيل أبي لكنه رحل، ومن حياته تعلمت ومن رحيله تألمت وتعلمت أيضاً؛ تعلمت ألا أُؤجل كلمة طيبة أريد أن أقولها لمن حولي، ألا أُؤجل مكالمة هاتفية لأحبائي. تعلمت أن الدقيقة الحالية هي كل ما أملك من الحياة وعليَّ أن أقضيها كما ينبغي أن تكون.

تعلمت أن التأجيل أمر غير مضمون، فالغد لا ضمان له، والدقيقة التالية نفسها قد لا أُوجد فيها أو لا يوجد فيها من أُحب! تعلمت أنه بعد خسائر معينة في الحياة لا يجوز إطلاق كلمة "خسارة" علي أي شيء. تعلمت أن أغلب الأشياء قابلة للتعويض ما عدا التعويض عن أشخاص نفقدهم في الحياة!

تعلمت أن أكبر هدية تقدمها لشخص هي أن تقضي معه وقتاً، أن تتحدث معه، أن تسمعه. وأن الهدايا الكلامية، مثل: "أنا أحبك" "وجودك يشكل فارقاً"، هي ما تُشكل بصمات لا تُنسى في قلوب الناس.

تعلمت أن داء العلاقات التأجيل وعدم التعبير، ودواؤها وجمالها في استغلال كل دقيقة ممكنة لإثراء تلك العلاقة والتعبير بشتى الطرق والوسائل عما يعنيه من تُحب لك.

إلى الغائب الحاضر بداخلي الذي ما زلت أتعلم منه.. في ذكراك أُرسل لكَ باقة زهور مثل التي أودعتها بداخلي وما زالت تُزهر إلى الآن.. إليك أُهدي ما أنا عليه بفضلك.


واقرأ لدينا أيضاً في قسم التجارب الشخصية:

رسالة إلى ابني الحنون: لا أتمنى شيئاً إلا أن أعيش معك

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

وفاء مرزوق
مذيعة راديو
تحميل المزيد